Saturday, August 26, 2006

ليلة زفاف العمدة

"يا عُمدة".. هكذا كنا نناديه، وذلك لأن أباه اختار له اسماً على اسم جدّ لنا كان عمدة البلدة آنذاك، قصة صداقة لا مثيل لها من وجهة نظري، أقارب وجيران وأصدقاء، ليست صداقة عادية بل نموذج فريد من الصداقة يندر وجوده في هذه الأيام التي غلبت عليها المادة حتى جعلت حياة الناس وعلاقاتهم تحكمها موازين الربح والخسارة، لقد دامت هذه الصداقة حتى صارت نموذجاً
يحاكيه كل من رأى هذين الاسمين يقترنان ببعضهما بصورة لا تحدث حتى بين الإخوان الأشقاء.

"عطا" الذي يصغرني بعام واحد لم يفارقني إلا بعد أن أنهى دراسته فسافر للعمل في القاهرة ثم كان الفراق الأبعد عندما سافر للعمل بالسعودية وكنت أستعد وقتها للسفر إلى النرويج تلبية لدعوة تلقيتها من صديق قديم يعمل أستاذاً بجامعة أوسلو، لم استطع السفر بسبب أحداث اا سبتمبر 2001 الشهيرة أو "غزوة منهاتن" كما يسميها " أمير المؤمنين" أسامة بن لادن، ففي الوقت الذي فكّر فيها بقتل آلاف الأبرياء في برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك بالإضافة إلى من ساقهم حظهم العاثر لأن يكونوا من بين ركاب الطائرات التي اختطفها الانتحاريين واصطدموا بها في المباني التي بها أبرياء لا حول لهم ولا طول؛ لم يفكر الشيخ -غفر الله له- أنه قد قام دون أن يدري بتغيير مسار حياتي بنسبة مائة وثمانين درجة، فبعد أن حلمت بقرب تحقيق أملي الأكبر في إكمال دراستي بعد الجامعية بالنرويج؛ جاءت الأحداث لينتج عنها رفض طلبي للحصول على التأشيرة ثم صدور سلسلة من الإجراءات والقيود على كل عربي أو مسلم يرغب في السفر إلى هذه البلاد.

على أي حال رحل "العمدة" إلى السعودية في إبريل 2001 على ما أذكر، وبعد أن رُفض طلبي لتأشيرة النرويج مكثت عائداً مرة أخرى إلى مهنة التدريس التي اضطررت إلى قبولها رغم تأثيرها السلبي على نفسيتي، وإن سألتني لماذا أحرص على تجديد الأجازة سنوياً فلن أجد إجابة لذلك، فهذه المهنة تضعك رغماً عنك في إطار وقالب روتيني عفا عليه الزمن وتجد في محيط عملك من يتصرف وكأنه لا يرى ما يحدث في العالم من حوله، وهو في تنفيذه لتعليمات الروتين كأنه قرآن منزل مع أن الأيام والتجارب أثبتت عدم فاعلية وإمكانية هذه النظام البائس في التعليم فالمؤسسة التعليمية في مصر بحاجة إلى ثورة شاملة تبدأ بإعادة الاعتبار للمدرس في جميع جوانب حياته.

معذرة فقد تحوّل الحديث عن ليلة زفاف العمدة إلى سرد تاريخي شخصي أحاول تجنبه دائماً لأنني وبكل تأكيد ستتعثر قدماي وتصطدم بما لا أود أن أتذكره في تلك الفترة وما بعدها، لأن مرور طيف الذكرى محملاً بأحداث وصور بعض المواقف يترتب عليه عذابات لا تُحتمل في حياة مَنْ عانى مرارة الأيام وقسوة السنين على أيدي من توهّم الوفاء فيهم، وما تلبث حياة ذلك الشقي أن تتلون بألوان داكنة قاتمة، وخاصة عندما يسلب الله الإنسان نعمة النسيان فيكون ذلك إيذاناً باللوعة والمعاناة في تذكر ما لا يود أن يتذكره وفي سعي دائم إلى نسيان لا يستطيع إليه سبيلاً، ولهذا أتوقف عند هذا الحد وأكمل حديثي عن العمدة.

أهم ما يميز "عطا" في رأيي هو نقاء سريرته فقد عهدته دائماً لا يعرف الحقد أو الحسد إلى قلبه طريقاً، فهو إنسان وجدته محباً لكل الناس، ولهذا تجده يصادق الجميع، وإذا نظرت إلى أصدقائه فستجدهم "كوكتيل" متنوع من كل نوعيات البشر وابتسامته العريضة تلخص لك صفاء ونقاء سريره هذا الإنسان الاجتماعي المحب للناس في زمن ندر فيه ذلك.
وهو مثلي ومثل كل مصري لم يجد له مكاناً كريماً ووضعاً يليق به داخل حدود وطنه،فقد قهرته الظروف مثل كثيرين غيره وأنكرت عليه أن يحيا حياة كريمة وسط أهله وعلى تراب وطنه فآثر الهروب من ذلك الواقع المرير إلى الوهم والمجهول خارج حدود الوطن.
لقد سعى "العمدة" وبذل كل ما في وسعه لتحقيق ما يصبو إليه، أكثر من خمس سنوات منذ رحلته الأولى إلى السعودية قضاها في كدّ وتعب وصبر في سبيل تحقيق هدفه الذي وضعه نصب عينيه، وها هو اليوم يجني ما غرس ويحصد ما زرع.

لم يكن العمدة وحده في رحلة تحقيق هدفه فقد وجد مَنْ عرفت معنى التضحيات التي قدمها في غربته وحيداً بعيداً عن وطنه وأهله وأحبائه، ولهذا صبرت هذه الفتاة التي تستحق كل إحترام وتقدير وانتظرت سنوات طويلة ولم تفعل مثل كثيرات غيرها غرّهن بُهرج الدنيا الخدّاع في تعجّل غريب ليقضوا بأيديهن على تلك النبتة النضرة التي طالما رواها الطرف الآخر بأحلامه وأمانيه ثم بجهده وعرقه، ذلك الإنسان النقي الذي أيقن في النهاية أنه لم يخسر شيئاً ذا قيمة ولكنه قد خسر الوهم وخسارة الوهم مكسب.

اليوم 226 أغسطس 2006 هو يوم زفاف العمدة على مَنْ قضى سنوات الغربة من أجل الارتباط بها، ما أجمل الحصاد بعد الصبر وطول الانتظار، وما أروع أن يتحول حلم الإنسان إلى حقيقة نتيجة جهده وعرقه وصبره.

كم كنت أتمنى أن أكون متواجداً في هذا اليوم لكنها الغربة التي باعدت بيننا وبين من نحب وحرمتنا من مشاركتهم أسعد اللحظات في حياتهم وحياتنا، فقد جعلت الغربة ارتباطنا بأحبائنا لا يتعدى مكالمة هاتفية بين الحين والآخر، وأجدني اليوم أسأل نفسي: ما قيمة أي شيء مقابل عدم تمكني من التواجد في مناسبة مثل هذه؟ لقد شعرت بالأسى لعدم مقدرتي على التواجد معه في أسعد أيام حياته ولكنني هربت من حزني إلى فرحته ففرحت معه وله ورحت أسجل ما أشعر به وأهنئه على زفافه.

آلاف الأميال تفصل بيننا ولا أملك من أمري شيئاً ،ولكني على يقين أن ما يخرج من القلب سيصل حتماً إلى القلب، ولهذا أجدني أردد من كل قلبي: ألف مبروك يا "عمدة" وبالرفاء والبنين بإذن الله.

Tuesday, August 15, 2006

بيان اعتذار من "حزب الثلاثة" إلى حزب الله

بعد أن وضعت الحرب على لبنان أوزارها، وبعد أن تبين لكل ذي عينين النصر المؤزّر الذي حققته المقاومة الإسلامية، وما سطرته من بطولات مذهلة فاجأت الأعداء والأصدقاء على حد سواء، وبعد أن انهارت تلك الأسطورة الوهمية للجيش الصهيوني والذي تبين أن قوته تكمن فقط في قتل الأطفال، وبعد أن انهزم الصهاينة شر هزيمة أمام مجاهدي حزب الله، وبعد أن عمّت مشاعر المحبة والتلاحم بين جميع أبناء هذا الوطن العربي الكبير والإسلامي الأكبر، واختفت الخلافات والاختلافات المذهبية بين المسلمين مما جعل كل هؤلاء يعتبرون هذا النصر ليس لحزب الله ولا للبنان فقط وإنما لكل عربي ومسلم يرفض الذل والمهانة، بل اتسعت هذه الفرحة والغبطة لتشمل كل مضطهد ورافض للهيمنة الأمريكية والغطرسة الصهيونية، وبعد أن ظهر جلياً هذا الانحياز الصارخ للإدارة الأمريكية إلى جانب إسرائيل بداية من عرقلة مشاورات مجلس الأمن لوقف الحرب في بدايتها ثم منحها إسرائيل أكثر من شهر لتنفيذ أهدافها التي فشلت في تحقيقها بفضل المقاومة الباسلة ثم سعيها إلى إنقاذ ماء الوجه لإسرائيل عبر محاولة تحقيق نصر دبلوماسي لتعويض الفشل العسكري، وبعد أن أُعلن مؤخراً أن الإدارة الأمريكية متورطة في التخطيط للحرب على لبنان قبل عملية الوعد الصادق وهو ما نشره الصحفي الأمريكي المتألق "سيمور هيرش" في مجلة نيويوركر 14 أغسطس الجاري.
كل هذه الأسباب وغيرها هو ما دفعنا نحن "حزب الثلاثة" إلى تحرير وإصدار هذا الاعتذار العلني، وقد يستغرب كثيرون من هذا الفعل، ولكن الحقيقة أن ما جعلنا ننزل من أبراجنا العاجيّة هو يقيننا أن التاريخ لن يرحمنا، والأجيال القادمة لن تغفر لنا لو تمادينا في موقفنا المتخاذل الذي اتخذناه في بداية الحرب عندما وصفنا عملية حزب الله "الوعد الصادق" بالمغامرة، بعد كل هذه الأسباب وغيرها رأينا أن نلحق بركب العزة والكرامة قبل فوات الأوان وعندها لن ينفع الندم، خاصة بعد أن اتسعت الهوة والفجوة بيننا كحكام وبين شعوبنا التي أجمعت على وجوب نصرة المقاومة ودعمها بشتى السبل.
الآن سيقول كل منا كلمته وليتفضل أكبرنا سناً زعيم الدولة الغنية وأول من أطلق شرارة هذا الموقف المتخاذل عندما وصفت إدارته المقاومة بالمغامرة، "ليقبل الشعب اللبناني والمقاومة الشريفة هذا الاعتذار مني على موقف قد بدر في لحظة لم أزن الأمور فيها جيداً، فعلى الجبهة الداخلية عندما اتخذت هذا الموقف المتخاذل لم أراع مشاعر الملايين من أبناء شعبي من الشيعة ولم ألتفت إلى ما قد ينتج عنه من مشاعر الغضب والحزن والإحباط، وهم مواطنون من بين نسيج الوطن الذي يمر بظروف صعبة ينبغي التكاتف بين مختلف أبنائه لمواجهة الخطر المحدق متمثلاً في العنف الداخلي الذي يهدد أمن البلاد، إضافة إلى المخططات الغربية الصهيوأمريكية لتقسيم البلاد، ولهذا ما كان ينبغي أن أتخذ ذلك الموقف، وما كان ينبغي أن تصدر تلك الفتاوى التي حرّمت دعم حزب الله ولا حتى الدعاء له وهي فتاوى أصدرها أناس أعلن أني بريء منهم إلى يوم القيامة، فالمقاومة في لبنان هي وسام على صدر كل عربي ومسلم، وليسامحني كل عربي ومسلم تسبب موقفي السابق في أي إحباط أو حزن أو خيبة أمل شعر بها وليغفر لي كل لبناني فقد عزيز عليه أو دُمّر منزله أو أتلفت ممتلكاته جراء التمادي الصهيوني في العدوان نتيجة موقفي السابق في بداية الحرب على لبنان، فنحن وإخواننا الشيعة قرآننا واحد ورسولنا واحد ومصيرنا واحد".
أما أنا صاحب مذهب "العقلانية" وزعيم الدولة التي من المفترض أن تكون أهم دولة عربية لما لها من ثقل تاريخي وإرث حضاري، أعبّر هنا عن تنصّلي التام من ذلك الموقف الذي لا يليق بسمعة ومكانة البلد الذي أجلس على مقعد الزعامة فيه، وأعترف أن هذه الدولة العظيمة قد تحولت في عهدي من دولة رائدة إلى دولة تابعة لا وزن لها ولا قيمة في ساحة السياسية الخارجية، لقد تبين لي من بسالة مقاتلي حزب الله أن قوة إسرائيل ومن ورائها أمريكا هي وهم لا أكثر، فقد بدّد رجال حزب الله ذلك الوهم الذي عشش في أذهاننا لعقود طويلة، لقد كانت مفاجأة لنا صمود حزب الله وهو ما جعلنا نغيّر من موقفا هذا مؤخراً، ففي مقابلة مع وكالة رويترز 14 أغسطس الجاري قال وزير خارجيتنا "إن حزب الله قاتل بشرف"، فقد أدركنا جميعاً هذه الحقيقة، وأنا كرجل عسكري أقول إن ما حدث يعتبر إنجازاً غير مسبوق في تاريخ الصراعات العربية الإسرائيلية، فقد تعوّدنا أن نبكي ونصرخ ونُهجّر نحن العرب فقط، لكن حزب الله أحدث التوازن الذي رأينا فيه الإسرائيليين يهجرون منازلهم ويلجأون للملاجيء تحت الأرض كالديديان، رأيناهم وهم يرتجفون ويُضربون في العمق وهو ما لم يحدث من قبل، وهنا أعلن عن اعتذاري لأبطال حزب الله ولكل مسلم وعربي عن ذلك الموقف المتخاذل، ومعلوم للجميع أن ما دفعني لاتخاذ كل موقف يُرضي سادة البيت الأبيض هو رغبتي الشديدة -بعد أن بلغت من العمر أرذله- إكمال "زفّة" المحروسة إلى عريسها الشاب المدلل، ولكن بعد اليوم لن أطلب المدد من أحد خارج حدود وطني، ولكني سألجأ إلى شعبي وسأترك له حرية الاختيار لأنه لا قيمة لحكم دون رضا الشعب وتوافقه واتفاقه على مَنْ سيحكمه في المستقبل سواء كان ذلك الشاب أو غيره.
أما أنا فقد تأخرت في الحديث لأني أصغركم سناً وربما هذا ما يحتفظ لي بقليل من العذر على ذلك الموقف، فقد وجدت اثنتان من أهم الدولة العربية تتخذان موقفاً كهذا فتسرعت كعادتي وأيدت موقفهما، وهو الموقف الذي يصب في مسيرة سعيي الدائم لنيل رضا السادة في البيت الأبيض غير عابيء بمشاعر شعبي وهذا خطأ جسيم، هذا الشعب الذي رأيت حجم الهوة والفجوة بيني وبينه عندما وجدته يخرج في مظاهرات حاشدة مؤيداً لموقف مجاهدي حزب الله، ويعلم الجميع أنني كنت قد حذرت في السابق من هلال شيعي على أساس أن إخواننا الشيعة خطرٌ علينا في المنطقة، ولكني أدركت الآن أن هؤلاء الشيعة الذين يمثلهم حزب الله لم يجلبوا للمسلمين والعرب إلا العزة والكرامة فهم ليسوا خطراً ولا حتى خطراً محتمل وإنما الخطر والعدو الحقيقي هو القابع على حدودي الغربية، أحكم دولة مصادر الدخل فيها محدودة وربما هذا هو ما يجعلني أسعى للحصول على الدعم من هنا أو هناك في مقابل مواقف تؤثر سلباً على وحدة أمتنا العربية والإسلامية، ولكني أعلنها من اليوم أن هذا لن يحدث مرة أخرى فالحرة تموت ولا تأكل بثدييها.
Photos From Reuters

Wednesday, August 02, 2006

سلطـان الذكـرى

لا أعرف كم يحتاج الواحد منا من الأيام والسنين كي يتمكن من نسيان وطيّ صفحة ماضية من حياته، وكم من الوقت لكي ينسى ما ألمّ به في الماضي من مواقف محزنة وأحداث لا يود أن يتذكرها، وهي بحق أمنية غالية طالما تمنى الواحد منا أن تتحقق، لأن مرور طيف الذكرى محملاً بأحداث وصور تلك المواقف يترتب عليه عذابات لا تُحتمل في حياة مَنْ عانى مرارة الأيام وقسوة السنين على أيدي من توهّم الوفاء فيهم، و مَنْ جاءته الطعنات مِن درعه الذي احتمى به واعتقد – لنقاء سريرته - أنه يقيه ضربات الزمن فإذا به يتحول إلى خنجر مسموم يتوجه في غدر إلى صدره المكشوف ليستقر في أعماق قلبه الذي كان بيتاً وملاذاً آمناً له وحده، وما تلبث حياته أن تتلون بألوان داكنة قاتمة، وخاصة عندما يسلب الله الإنسان نعمة النسيان فيكون ذلك إيذاناً باللوعة والمعاناة في تذكر ما لا يود أن يتذكره وفي سعي دائم إلى نسيان لا يستطيع إليه سبيلاً، وتصل المعاناة ذروتها مع بزوغ فجر "آب"* من كل عام فنجده يردد:"آب" حزين يأبى أن يفارقني ** مع ذكريات شتى عن معاناتي.

وتتضاعف معاناة ذلك الذي يتناسى ولا يستطيع عندما يتذكر أنه لم يقترف إثماً ولا جريرة، وربما كان قد سعى قدر استطاعته في سبيل تحقيق ذلك الهدف، إلا أن هناك أُناساً غرّهم بُهرج الدنيا الخدّاع في تعجّل غريب ليقضوا بأيديهم على تلك النبتة النضرة التي طالما رواها بأحلامه وأمانيه ثم بجهده وعرقه، ولكن لا أدري لماذا إذن يحزن ذلك النقيّ الذي لم يدّخر جهداً في سبيل تحقيق هدفه رغم الصعاب، فلا يجب أبداً أن يستسلم لذلك الحزن لأنه في الواقع لم يخسر شيئاً ذا قيمة ولكنه قد خسر الوهم وخسارة الوهم مكسب.

كلمات رائعة ومعبرة قرأتها منذ أكثر من ثلاثة أعوام لأحد الكُتّاب ولا أزال أذكرها، فقد تحدث عن فكرة خسارة الوهم فقال ".. وهي فكرة يمكن تعميمها على أي شيء يختبره الإنسان ثم يكتشف فجأة أو بعد تجربة أنه لم يكن عند مستوى ما فكرة فيه أو شعر به. ومن ثم فإنه عندما يتنازل عنه أو يرفضه أو يغير فكره ومشاعره نحوه فإنه لا يخسر في الحقيقة شيئاً مهماً. وإنما يخسر الوهم الذي عاشه تحت سطوة الفكر والشعور الخاطئ. فأنت عندما تحب امرأة وتتوله في حبها ثم تكتشف خيانتها أو أنها عبيطة وبشعة من داخلها ولا تقدر قيمة عواطفك نحوها ثم تأخذ قرارك بنفيها من عالمك أو تجفيف مشاعرك نحوها .. عندما تفعل ذلك .. أنت لا تخسر هذه المرأة التي أحببتها وإنما تخسر وهمك فيها .. وهمك بأنك أحببت من لا يستحق.وهكذا .. انظر إلى أفكارك التي اكتشفت خطأها ومشاعرك التي أيقنت أنها صرفت تجاه من لا يستحقها.. انظر إليها بفكرة خسارة الوهم.. ستستريح جداً.. وستبدأ وهماً جديداً.. لكن وفي كل مرة عندما تكتشف وهمك تراجع فوراً وقل في نفسك: إنني خسرت الوهم.. لم أخسر شيئاً ذا قيمة.. لأنك أنت القيمة في الحقيقة وقيمتك تأتي من مشاعرك ونظافتك ومحبتك التي بذلتها حتى لمن كانوا وهماً في حياتك."

نعم، لا يجب أن يحزن الإنسان أو يلوم نفسه على نقائه وطهارته ونبل هدفه حتى لو كان ذلك وبالاً عليه، ولكن على العكس لابد أن يشعر بالفخر والزهو لأنه كان مترفعاً عن كل ما يعكر نقاء الصورة التي حلم بها وسعى جاهداً لكي يرسمها على أرض الواقع بكفاحه وعرقه، وحاول نسج خيوط تلك الحياة التي يتطلع إليه بمثابرته وصبره على ظروف من صنيعة آخرين وجد نفسه فيها ولم تكن أبداً وليدة اختياره، بل إنه سعى بكل ما أوتي من قوة أن يغير تلك الظروف ويتغلب عليها مهما كلفه ذلك في سبيل تحقيق هدفه الأسمى الذي طالما تطلّع إليه.

ولكن ذلك كلاماً نسطره بينما يصدع الواقع بحقيقة أخرى، وهي أن الأمر ليس بأيدينا فهناك أشياءً خارجة عن إرادة الإنسان، مثل رمشة العين وخفقان القلب وليس هناك من سبيل للتحكم فيها، فكم تمنى وحلُم هؤلاء الذين يعانون مرارة الذكرى بوسيلة سحرية ناجعة لكي يظفروا بتلك النعمة العظيمة.. نعمة النسيان لكي يتخلصوا إلى الأبد من سطوة تلك الذكريات المريرة، فهل هناك من سبيل إلى تلك الوصفة السحرية وهل هذا ممكناً حقاً ؟

تأتينا الإجابة على ذلك السؤال من تساؤل آخر يطرحه الشاعر أحمد رامي ذو الحس المرهف في قصيدته الرائعة "ذكريات" فيتساءل: "كيف أنساها وقلبي لم يزل يسكن جنبي ؟" فهنا يكمن السر وذلك هو موطن الداء، فطالما أن هناك قلباً يخفق وفؤاداً ينبض بالحياة لن تتحقق غاية النسيان ولن يحصل ذلك الشقي على مراده ولن يتمكن من نسيان تلك الذكريات المرة، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً وتشاء إرادته عز وجل أن يريح هذا الكائن الشقي من تلك الحياة التي لم يتمنْ فيها شيئاً وناله، حتى عندما وجد الحلم يدنو منه توهم أنه قد قبض بيديه الطاهرتين على الدنيا وتوهّم أن الله يكافئه عن كل ما لاقى من شقاء في هذه الدنيا الظالم أهلها واعتقد أن وقت الجزاء قد حان لكي يُكافأ على صبره ومثابرته ومعاناته طوال سنوات طويلة من الحرمان، ولكنه أفاق من غفوته التي طالما تمنى أن تطول ليدرك أن الأمر لم يكن أكثر من أضغاث أحلام وأن من كُتب عليه الشقاء يلازمه ولا يفارقه إلى أن يغادر هذه الدنيا ربما يجد راحته هناك.. في دار العدل.

وأختم بهذه الأبيات للشاعر العراقي حسن المرواني :

دَعْ عنك لَوْميْ وَأعزفْ عَنْ مَلامَاتي
إنْي هَويتْ سَريعاً مِنْ مُعاناتي
****
أنا الذي ضاع لي عامان من عمري
و باركت وهمي و صَدّقت افتراضاتي
****
عامان ما رفّ لي لحن على وتر
و لا استفاقت على نور سماواتي
****
عندي أحاديث حزن كيف أسطرها
تضيق ذرعاً بي أو في عباراتي
****
غداً سأذبح أحزاني وأدفنها
غداً سأطلق أنغامي الضحوكات
-------------------------
* "آب" (شهر أغسطس) وهو الشهر الثامن في التقويم الميلادي