ليلة زفاف العمدة
"يا عُمدة".. هكذا كنا نناديه، وذلك لأن أباه اختار له اسماً على اسم جدّ لنا كان عمدة البلدة آنذاك، قصة صداقة لا مثيل لها من وجهة نظري، أقارب وجيران وأصدقاء، ليست صداقة عادية بل نموذج فريد من الصداقة يندر وجوده في هذه الأيام التي غلبت عليها المادة حتى جعلت حياة الناس وعلاقاتهم تحكمها موازين الربح والخسارة، لقد دامت هذه الصداقة حتى صارت نموذجاً
يحاكيه كل من رأى هذين الاسمين يقترنان ببعضهما بصورة لا تحدث حتى بين الإخوان الأشقاء.
"عطا" الذي يصغرني بعام واحد لم يفارقني إلا بعد أن أنهى دراسته فسافر للعمل في القاهرة ثم كان الفراق الأبعد عندما سافر للعمل بالسعودية وكنت أستعد وقتها للسفر إلى النرويج تلبية لدعوة تلقيتها من صديق قديم يعمل أستاذاً بجامعة أوسلو، لم استطع السفر بسبب أحداث اا سبتمبر 2001 الشهيرة أو "غزوة منهاتن" كما يسميها " أمير المؤمنين" أسامة بن لادن، ففي الوقت الذي فكّر فيها بقتل آلاف الأبرياء في برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك بالإضافة إلى من ساقهم حظهم العاثر لأن يكونوا من بين ركاب الطائرات التي اختطفها الانتحاريين واصطدموا بها في المباني التي بها أبرياء لا حول لهم ولا طول؛ لم يفكر الشيخ -غفر الله له- أنه قد قام دون أن يدري بتغيير مسار حياتي بنسبة مائة وثمانين درجة، فبعد أن حلمت بقرب تحقيق أملي الأكبر في إكمال دراستي بعد الجامعية بالنرويج؛ جاءت الأحداث لينتج عنها رفض طلبي للحصول على التأشيرة ثم صدور سلسلة من الإجراءات والقيود على كل عربي أو مسلم يرغب في السفر إلى هذه البلاد.
على أي حال رحل "العمدة" إلى السعودية في إبريل 2001 على ما أذكر، وبعد أن رُفض طلبي لتأشيرة النرويج مكثت عائداً مرة أخرى إلى مهنة التدريس التي اضطررت إلى قبولها رغم تأثيرها السلبي على نفسيتي، وإن سألتني لماذا أحرص على تجديد الأجازة سنوياً فلن أجد إجابة لذلك، فهذه المهنة تضعك رغماً عنك في إطار وقالب روتيني عفا عليه الزمن وتجد في محيط عملك من يتصرف وكأنه لا يرى ما يحدث في العالم من حوله، وهو في تنفيذه لتعليمات الروتين كأنه قرآن منزل مع أن الأيام والتجارب أثبتت عدم فاعلية وإمكانية هذه النظام البائس في التعليم فالمؤسسة التعليمية في مصر بحاجة إلى ثورة شاملة تبدأ بإعادة الاعتبار للمدرس في جميع جوانب حياته.
معذرة فقد تحوّل الحديث عن ليلة زفاف العمدة إلى سرد تاريخي شخصي أحاول تجنبه دائماً لأنني وبكل تأكيد ستتعثر قدماي وتصطدم بما لا أود أن أتذكره في تلك الفترة وما بعدها، لأن مرور طيف الذكرى محملاً بأحداث وصور بعض المواقف يترتب عليه عذابات لا تُحتمل في حياة مَنْ عانى مرارة الأيام وقسوة السنين على أيدي من توهّم الوفاء فيهم، وما تلبث حياة ذلك الشقي أن تتلون بألوان داكنة قاتمة، وخاصة عندما يسلب الله الإنسان نعمة النسيان فيكون ذلك إيذاناً باللوعة والمعاناة في تذكر ما لا يود أن يتذكره وفي سعي دائم إلى نسيان لا يستطيع إليه سبيلاً، ولهذا أتوقف عند هذا الحد وأكمل حديثي عن العمدة.
أهم ما يميز "عطا" في رأيي هو نقاء سريرته فقد عهدته دائماً لا يعرف الحقد أو الحسد إلى قلبه طريقاً، فهو إنسان وجدته محباً لكل الناس، ولهذا تجده يصادق الجميع، وإذا نظرت إلى أصدقائه فستجدهم "كوكتيل" متنوع من كل نوعيات البشر وابتسامته العريضة تلخص لك صفاء ونقاء سريره هذا الإنسان الاجتماعي المحب للناس في زمن ندر فيه ذلك.
وهو مثلي ومثل كل مصري لم يجد له مكاناً كريماً ووضعاً يليق به داخل حدود وطنه،فقد قهرته الظروف مثل كثيرين غيره وأنكرت عليه أن يحيا حياة كريمة وسط أهله وعلى تراب وطنه فآثر الهروب من ذلك الواقع المرير إلى الوهم والمجهول خارج حدود الوطن.
لقد سعى "العمدة" وبذل كل ما في وسعه لتحقيق ما يصبو إليه، أكثر من خمس سنوات منذ رحلته الأولى إلى السعودية قضاها في كدّ وتعب وصبر في سبيل تحقيق هدفه الذي وضعه نصب عينيه، وها هو اليوم يجني ما غرس ويحصد ما زرع.
لقد سعى "العمدة" وبذل كل ما في وسعه لتحقيق ما يصبو إليه، أكثر من خمس سنوات منذ رحلته الأولى إلى السعودية قضاها في كدّ وتعب وصبر في سبيل تحقيق هدفه الذي وضعه نصب عينيه، وها هو اليوم يجني ما غرس ويحصد ما زرع.
لم يكن العمدة وحده في رحلة تحقيق هدفه فقد وجد مَنْ عرفت معنى التضحيات التي قدمها في غربته وحيداً بعيداً عن وطنه وأهله وأحبائه، ولهذا صبرت هذه الفتاة التي تستحق كل إحترام وتقدير وانتظرت سنوات طويلة ولم تفعل مثل كثيرات غيرها غرّهن بُهرج الدنيا الخدّاع في تعجّل غريب ليقضوا بأيديهن على تلك النبتة النضرة التي طالما رواها الطرف الآخر بأحلامه وأمانيه ثم بجهده وعرقه، ذلك الإنسان النقي الذي أيقن في النهاية أنه لم يخسر شيئاً ذا قيمة ولكنه قد خسر الوهم وخسارة الوهم مكسب.
اليوم 226 أغسطس 2006 هو يوم زفاف العمدة على مَنْ قضى سنوات الغربة من أجل الارتباط بها، ما أجمل الحصاد بعد الصبر وطول الانتظار، وما أروع أن يتحول حلم الإنسان إلى حقيقة نتيجة جهده وعرقه وصبره.
كم كنت أتمنى أن أكون متواجداً في هذا اليوم لكنها الغربة التي باعدت بيننا وبين من نحب وحرمتنا من مشاركتهم أسعد اللحظات في حياتهم وحياتنا، فقد جعلت الغربة ارتباطنا بأحبائنا لا يتعدى مكالمة هاتفية بين الحين والآخر، وأجدني اليوم أسأل نفسي: ما قيمة أي شيء مقابل عدم تمكني من التواجد في مناسبة مثل هذه؟ لقد شعرت بالأسى لعدم مقدرتي على التواجد معه في أسعد أيام حياته ولكنني هربت من حزني إلى فرحته ففرحت معه وله ورحت أسجل ما أشعر به وأهنئه على زفافه.
آلاف الأميال تفصل بيننا ولا أملك من أمري شيئاً ،ولكني على يقين أن ما يخرج من القلب سيصل حتماً إلى القلب، ولهذا أجدني أردد من كل قلبي: ألف مبروك يا "عمدة" وبالرفاء والبنين بإذن الله.
No comments:
Post a Comment