Tuesday, June 07, 2005


فلسفة تزوير الواقع

تحدثت في مقال سابق عن فلسفة تزوير الواقع عبر تعبير برّاق زائف ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب، وضربت مثالاً على ذلمك بالتعبيرات التي يطلقها وبرع في نحتها السيد صفوت الشريف وزير الإعلام السابق والرئيس الحالي لمجلس الشورى المصري.

اليوم نحن على موعد مع نوع آخر من تزوير الواقع ولكنه في هذه المرة أكثر جرأة ،ففي الوقت الذي توقف فيه مثالنا السابق عند حدود إطلاق التعبيرات فقط، إلا أن نموذجنا الذي نحن بصدده اليوم يتجاوز حدود القول ليقفز إلى حيز التنفيذ على أرض الواقع الذي يصبح مزوراً ،وهذا أكثر خطراً من النموذج السابق الذي لم يتخطى حاجز الكلام وإطلاق التعبيرات الرنّانة.

حدث في الإسكندرية وأثناء زيارة قرينة الرئيس الأمريكي السيدة لورا بوش لمجمع لمدارس البنات إسمه مجمع أم القرى وهو مدرج علي قوائم الجهات المستفيدة من المعونة‏ الأمريكية لتطوير التعليم في مصر ، فقد حدث أن تم تبديل "تزوير" طالبات وإدارة المدرسة وإستبدلهم "تزويرهم" بإدارة أخرى وطالبات أخريات "ولاد ناس" يتحدثن لغة العم والسيد الأمريكي حتى يثبت القوم لسيدة أمريكا الأولى أنهم يسيرون على الدرب وقد ورد أنه من سار على الدرب وصل !

فعلاً معهم حق ! فطالبات المدرسة الأصليين لا يصلحن للقاء السيدة لوار فهن يرتسم على وجوههن البؤس والفقر والحاجة والعوز الذي لا تعرفه السيدة لورا ولا حتى سيدة مصر الأولى التي تريد أن توهم ضيفتها أن الوضع على ما يرام وأن الصورة وردية وزي الفل، والأهم من ذلك هو أن الكثيرات من هؤلاء الطالبات يرتدين الحجاب كما أن هناك رجالاًَ من إدارة المدرسة الأصليين ملتحيين، وهذا يتنافى ويتعارض مع النظرة الأمريكية للشرق الأوسط الذي يجب أن يكون متحرراً من كل شيء حتى اللباس، وليس مجرد التحرر من الأخلاق والقيم والمباديء التي تنبع من ديننا الحنيف، فقد إستشعر القائمين على الأمر أن سيدة أمريكا الأولى لن يروق لها رؤية "التطرف" ممثلاً في هؤلاء الفتيات المحجبات وهؤلاء الرجال ذوي اللحى، لأنها تتطلع إلى رؤية أثر المعونة الأمريكية ظاهراً جلياً في شعر الفتيات المرسل وملابسهن وألسنتهن التي لابد أن ترطن بلغة ولي النعمة الذي جاد وفاض بكرمه على أبناء مصر البسطاء!

ما أثار إستغرابي حقاً في هذا الموضوع ليس عملية التزوير التي حدثت ولكنني تعجبت أن الجميع ظهروا وكأنهم قد صدمتهم المفاجأة التي في نظري ليست مفاجأة بالمرة،فمن خلال متابعتي لتداعيات الموضوع وجدت أن الجميع قد تفاجأوا بهذا الفعل لدرجة أن كاتباً أحترمه قال عن تلك الواقعة إنها " من النوع الذي يحدث ولا يكاد يصدق" ، فالجميع تناولوا الموضوع بصورة توحي كأن هذا حدث للمرة الأولى أو أنها سابقة شاذة عن المجتمع التعليمي في مصر أو كأن هذه حالة إستثنائية أقدم عليه أشخاص شاذين لا يمثلون السواد الأعظم من المجتمع التعليمي في مصر وكأن غالبية هذا المجتمع التعليمي في مصر لا يزورون الواقع ! ولكن الأمر غير ذلك تماماً وبشهادة من عاش لسنوات في الوسط التعليمي في مصر.

وكأن هؤلاء الذين صدمتهم المفاجأة لا يعلمون أنه بمجرد علم إدارة أي مدرسة أن هناك لجان مراقبة تمر على المدارس لمتابعة أدائها حتى تعلن حالة الطواريء في المدرسة وتجد المدرسة وكأنها مدرسة أخرى من حيث النظافة والنظام والإلتزام وحرص كل مدرس على تواجده في فصله بين الطلبة مع إلتزامه بتجهيز كل ما قد يطلب منه إذا ما دخل عليه الفصل أي من أفراد تلك اللجنة المنتظر وصولها ، وبمجرد أن تنتهي هذه اللجنة من عملها وتنصرف من حرم المدرسة تعود ريمة لعادتها القديمة ! وهنا وأود أن أتساءل: ما الفرق بين ما حدث في الإسكندرية وبين عمليات الغش المنهجية المنظمة التي تنتشر في الكثير من المدارس ؟ أليس كلا الأمرين تزوير فج للواقع ؟

أقول إن هذا يحدث عندما تسمع إدارة المدرسة أن هناك لجاناً قد تمر على المدارسة لمتابعة أدائها، وهذه اللجان مهما كبرت أو صغرت لن تزيد عن مجموعة موظفين يؤدون دورهم الروتيني فما بالكم بالسيدة الأولى في العالم عندما تقرر زيارة مجمع مدارس هنا أو هناك؟

وفي النهاية أود أن أتساءل: من المسؤول عن هذه النزعة البائسة إلى التجمل عبر تزوير الواقع؟ ولماذا نتهرب من مواجهة الآخرين بعوراتنا وما أكثرها ؟ وهل ما يهمنا فقط هو نظرة الآخرين لنا ؟ ولماذا نشعر بالخزي من الحالة التي وصل إليها السواد الأعظم من أبناء الوطن ونحاول جاهدين إخفائها خلف ستار شفاف مهتريء ؟ ومتى تظهر على السطح مصر الأخرى التي يعرفونها وينكرون وجودها؟

No comments: