! غلابة على باب السفارة
تصدّعت جدران قلبي من الحزن والأسى وأنا أقرأ في الراية عن مأساة ثلاثة من العمال قهرتهم الظروف مثل الكثيرين غيرهم واستكثرت عليهم العيش حياة كريمة وسط أهلهم وذويهم فآثروا الهروب من ذلك الواقع المرير إلى المجهول خارج حدود الوطن علّهم يجدون مفراً من ذاك القدر التعيس، ولكن يبدو أن من كُتب عليه الشقاء لن يسعفه قطع الأميال واجتياز الحدود وتبديل الأوطان، فهو قدرٌ محتوم لا مفر منه، فأمثال هؤلاء قد اعتادوا على المآسي في هذه الدنيا وحياتهم ما هي إلا مأساة دائمة إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً، ويتحولوا إلى مجرد أرقام في سجل الوفيات وعندها ينتبه الجميع أن هناك آدمي كان يعاني بينهم ويتألم قد أرادت مشيئة الله أن تريحه من همّ الدنيا وشقائها، وهم مع كل ما يعانون يعلمون جيداً أن القدر يحمل لهم في جعبته الكثير ويخفيه لهم في طيّات الزمن الذي لا يرونه إلا مراحل متتابعة من البؤس والشقاء، ولا يملك الواحد منا إزاء هذه المآسي الإنسانية إلا أن يردد ما قاله المنفلوطي، رحمه الله، إن الأشقياء في الدنيا كثير وليس في استطاعة بائس مثلي أن يمحو شيئاً من شقائهم، وخاصة إذا كانت حصته من الشقاء لا تقل كثيراً عن نصيب هؤلاء التعساء، وعندما يعجز المرء منا ويقف ساكناً أمام مأساة كهذه لا يملك إلا صوته وربما قلمه ليصدع بصرخة مدوية علّها تخترق الحُجب لتصل إلى كل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
فقد تعسفت معهم الشركة التي يعملون فيها لدرجة أنها ترفض طلبهم العودة إلى بلدهم في مقابل تنازلهم عن كافة حقوقهم ! ولكن القائمين على الشركة يريدون في أن يتركوا هؤلاء العمال هكذا حتى يكونوا عبرة لمن يعتبر من باقي العاملين بالشركة، وإُنتزعت الرحمة من قلوب مسؤولي تلك الشركة حتى إنهم أصروا على موقفهم هذا رغم علمهم بأن والدة أحد هؤلاء العمال في غيبوبة الموت نتيجة علمها بالمشكلة التي يواجهها فلذة كبدها وحيداً خارج الحدود، وساءت ظروفهم للغاية حيث أنهم موقوفين عن العمل ويعانون ذل السؤال في سبيل لقمة العيش !! وقد ذكر هؤلاء العمال إنهم وبعد أن سُدّت أمامهم كل السبل لجأوا إلى سفارة بلدهم وطلبوا مقابلة السفير ولكن موظفي السفارة – على حد قولهم – لم يسمحوا لهم بذلك !! ويتساءل العمال كيف يحدث ذلك في سفارة من المفترض أن تكون بيتنا الأول !!
فقد تصوّر العمال وافترضوا – ربما بسبب فداحة المشكلة – أن الوضع في سفارة بلدهم ربما يكون مختلفاً وستفتح أمامهم الأبواب لمقابلة سعادة المسؤول ولن تعيقهم تلك التعقيدات الروتينية العقيمة المتّبعة هناك على أعتاب السادة المسؤولين في بلدهم، ولهذا تجرأوا وتطلعوا وقفزوا بخيالهم وسوّلت لهم أنفسهم "الأمّارة بالسوء" طلب مقابلة سعادة المسؤول !!
ولكن لا عجب عندما نكون إزاء نموذج مُصغّر لآخر أكبر تغرق كافة مؤسساته في بيروقراطية عفا عليها الزمن، فالعالم كله يتغير ولكننا ما نزال نقبع في نفس الخندق الضيق العفن المتمثل في تجاهل ونكران أبسط حقوق المواطن عبر أسلوب روتيني رجعي جعلنا نتخلف عن ركب الأمم، فالإنسان هو الثروة الحقيقية لأي أمة وهو وقود تقدمها وازدهارها وهو المحرك الرئيسي لأي نهضة تبتغيها، ومراعاة حقوق وكرامة وإنسانية هذا الآدمي والسهر على راحته وتذليل ما يواجهه من صعوبات هو الطريق الأمثل نحو تحقيق طموحات وآمال وتطلعات الأمم، فإذا أرادت أمة ما أن تنهض من غفوتها - التي طالت- فعليها احترام مواطنيها وحفظ كرامتهم والتكفل بمراعاة حقوقهم وتيسير شؤونهم أينما كانوا ،لا أن تتركهم حتى يصل هم الحال أن يطلبوا "التنازل" عن حقوقهم في مقابل السماح لهم بالعودة إلى بلدهم، فهذه في رأيي ليست مجرد مأساة نفر من المواطنين المغتربين عن بلدهم بل إنها أعم من ذلك وأكبر.
No comments:
Post a Comment