الخاسر الأكبر في تفجيرات شرم الشيخ
في صباح الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) من عام 2001 وصلت إلى مدينة شرم الشيخ بعد أن قطعت ما يزيد على ستمائة كيلومتراً من قريتي بإحدى محافظات شمال الصعيد لكي ألتحق بالعمل بقسم المكاتب الأمامية(الاستقبال) بإحدى الفنادق التي كان قد تم إنشاؤها حديثاً، وذلك بعد فترة انقطاع عن العمل في مجال السياحة دامت عدة شهور عملت قبلها بمدينة الغردقة الساحرة على ساحل البحر الأحمر.
وفي مساء نفس اليوم الذي وصلت فيه حدثت التفجيرات الإرهابية التي ضربت برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك ومبنى وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون)، وتسمّرت أمام التلفاز أشاهد ما لم يخطر على بال أحد من ضرب أهداف تمثل رموز الهيبة الأمريكية ممثلة في الاقتصاد والقوة، وبينما انبرى الكثيرون من حولي يهللون طرباً لتلك الهجمات، كان تفكيري يتناول الموضوع من جانب آخر لا أدري كيف غاب عن فكر هؤلاء العاملين في مجال السياحة وانصرفوا عنه وقلت في نفسي اتركهم فسوف تغيب السكرة وتحل الفكرة ويدركوا حجم الفاجعة والمأساة التي سيعانون منها كنتيجة غير مباشرة لما حدث، وأيقنت وقتها أن فرصتي للالتحاق بذلك العمل الذي جئت من أجله قد باتت شبه معدومة وأنه يجب عليّ – توفيراً للمال والوقت والجهد- أن أعود إلى قريتي الصغيرة، ولكنني آثرت أن أبقى هناك لبعض الوقت أولاً لاعتقادي بأنه ربما يكون هناك بصيصاً من الأمل بأن الأمور قد تستقر ولا يتأثر الوضع هناك وخاصة عندما كنت أفكر في آلاف الكيلومترات التي تفصلنا عن(موقع) الأحداث، وثانياً كنت أود أن أرقب الوضع في أهم الدن السياحية المصرية ومدى تأثرها بتلك الأحداث ومدى تأثر قطاع السياحة الحسّاس بتلك التفجيرات الإرهابية التي حدثت على الجانب الآخر من الأطلسي، وارتأيت ألا أضيع هذه الفرصة لكي أتابع الموقف عن قرب لكي أسجل ما أشهده في ذاكرتي فربما يجيء اليوم الذي أسطر فيه تلك التجربة على الورق وأعتقد أنه قد جاء.
عشرة أيام قضيتها بعد تلك الأحداث تابعت فيها التأثير المفجع الذي تعرضت له صناعة السياحة في هذه المدينة الهادئة التي تعجز الكلمات عن وصف روعتها وسحرها وجمالها، وقبل أن أتحدث عن تأثير ما حدث يكفي أن أقول إن نسبة الإشغال كانت في ذلك الوقت تزيد على ثمانين في المائة وأرجع الكثيرون ارتفاع نسبة الإشغال السياحي في تلك الفترة إلى أسباب عدة منها اندلاع الانتفاضة الثانية وإحجام الكثير من السائحين عن الذهاب إلى إسرائيل بسبب الأوضاع الأمنية الغير مستقرة هناك، ولكن في خلال أيام قليلة بعد الأحداث ظهرت تلك الآثار المفجعة بوضوح فقد هجر السائحون المدينة، وعلمت وقتها أنهم كانوا ينتظرون حجوزات طيران إلى بلدانهم وكانوا يقضون أوقاتهم أمام التلفاز لمتابعة ما قد سوف يحدث، وفي غضون أيام شرعت الكثير من الفنادق في تسريح الكثير من العاملين بها، بينما قامت فنادق أخرى بمنح أكثر من نصف العاملين بها أجازات مفتوحة بدون راتب إلى أن تتحسن الظروف، وذلك بسبب مغادرة السائحين لتلك الفنادق من ناحية وإلغاء الكثير من الحجوزات من ناحية أخرى، مما نتج عنه إغلاق كامل لبعض الفنادق بعد أيام قليلة من التفجيرات، وبعد أن تلاشى بصيص الأمل الذي كنت أتوهم وجوده قررت حزم أمتعتي، وعدت إلى قريتي غضبان أسفاً أصبّ اللعنات على هؤلاء الحمقى الذين ارتكبوا ذلك الفعل الإجرامي فقتلوا الأبرياء وسدّوا مصدر رزق للآلاف من البسطاء الذين لم تسعهم رحابة الوادي الفسيح لأسباب يعلمها الجميع في حين يتجاهلها البعض!
حدث كل هذا في مدينة على ساحل البحر الأحمر تبعد آلاف الكيلومترات عن موقع التفجيرات الإجرامية في نيويورك وواشنطن، وكنت أتساءل وقتها وأنا أرى بصيص الأمل في الالتحاق بالعمل يتلاشى:هل توقّع هؤلاء الحمقى وسفهاء العقول عند التخطيط لتلك الأفعال تأثير تلك الجرائم على إنسان بسيط مثلي والآلاف غيري الذين شدّوا الرحال إلى بلدانهم وقراهم لكي ينالوا نصيبهم الذي ينتظرهم من البؤس والشقاء والحرمان وذلك بعد انقطاع مصدر رزقهم على أيدي ثلة من المجرمين.
لكن لماذا أسرد هذه القصة الآن؟ أقول إنني ومن خلال سردي لتلك القصة أسجّل -كشاهد عيان-ما حدث إبان أحداث الحادي عشر من سبتمبر من تأثيرات مفجعة على قطاع السياحة تابعتها بنفسي، لكي تتخيلوا معي حجم المأساة التي يعانيها آلاف المصريين البسطاء الصابرين الذي يعملون في شرم الشيخ وغيرها من المدن السياحية الأخرى في مصر نتيجة لما حدث صباح السبت الماضي 23 يوليو (تموز) من أفعال إجرامية حقيرة ودنيئة لم يفكر فاعلوها أن الخاسر الأكبر بعد الضحايا الأبرياء الذين فقدوا أرواحهم نتيجة لتلك الأفعال هم العاملون المصريون في المدن السياحية، فهؤلاء المجرمون المأجورون لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة، تبت أيديهم وخسيء من يقف وراءهم، ألم يفكر هؤلاء الحاقدون في مستقبل هؤلاء العاملين الكادحين وتلك الأفواه التي يكدون لإطعامها ؟ ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون؟!
والله لقد اعتصر قلبي من الحزن والأسى وأنا أشاهد على شاشة التلفاز أحد الناجين يروي كيف أنه كان يتناول العشاء مع صديقه وتركه لثوان معدودة وعاد فلم يجد رفيقه ويقول في حسرة إن صديقه الذي لقى حتفه متزوج حديثاً، فقد قتله الجبناء وهو يعيش أجمل أيام عمره بعد أن كدّ وتعب وصبر وعانى إلا أن حقق حلمه في تكوين أسرة صغيرة، ويروي آخر كيف أنه انتهى للتو من تجهيز المحل لكي يبدأ العمل به في هذا الموسم السياحي إلا أن الجبناء قضوا على آماله وأحلامه، وأنا أعلم جيداً كم تتكلف تلك التجهيزات والإيجارات المبالغ فيها من ملاك تلك المحلات والتي يستأجرها شباب يبيعون فيها الهدايا والتذكارات للسائحين، ولعل هذان نموذجان يعبران عن حالة الآلاف من الشباب المجتهد الذي لم ينتظر وعوداً كاذبة أو تصريح برّاق زائف، وإنما سعوا جادين مجتهدين في طريق أرزاقهم، وراح الواحد منهم يجابه الصعاب وينحت في الصخر باحثاً عن فرصة عمل وسبب للرزق يقتات منه ويطعم الأفواه التي يعولها وربما تكن سبيلاً لتحقيق حلمه مثل أي شاب في تكوين أسرة بسيطة بعد أن بعد أن أصبح الغالبية العظمى من الشباب يجدون أنفسهم بين مطرقة الظروف الاقتصادية القاسية وسندان المبالغة في تكاليف الزواج المجحفة والمبالغ فيها.
ربما لم يدرك هؤلاء الحمقى الذين ارتكبوا تلك الأفعال الآثمة أمرين هامين أولهما أن المتضرر من جرائمهم تلك ليس مالك فندق "غزالة جاردنز" - الذي أصابه تدمير كلي - والذي يمتلك أيضاً المول التجاري الذي تم استهدافه أيضاً في منطقة السوق التجاري القديم، فمعلوم للجميع أن هذا الرجل المَرضي عنه –ندعوا الله أن يرضى عنا جميعاً - يمتلك عدّة فنادق في شرم الشيخ، فالرجل لن يتأثر كثيراً، ولكن الخاسر الحقيقي هو العامل البسيط الذي هجر أهله في قريته أو بلدته وقطع مئات الكيلومترات لكي يوفر لهم حياة كريمة آمنة ورضيَ وقنعَ بالعيش بينهم أسبوع على الأكثر في كل شهر أو شهرين وربما أكثر، فالمصري إنسان بسيط قنوع يرضى بالقليل وهو في نفس الوقت إنسان مثابر صابر كادح لا يرضخ للظروف إذا ما نجحت في قهره والتغلب عليه فما يلبث أن يعاود الكرّة مرة أخرى، وربما تجده يهجر ذلك المكان الذي مُنيَ فيه بالهزيمة باحثاً عن مكان آخر يستطيع التغلب فيه على تلك الظروف والانتصار عليها متطلعاً إلى أمل جديد وحياة ينسج خيوطها بعرقه وجهده ومثابرته، وكم كنت أشعر بالفخر وأنا أرى أمام عيناي نماذج توحي بالأمل والتفاؤل لشباب نجحوا في قهر تلك الظروف المعيشية القاسية، فأمام تلك التجارب تجد نفسك أسير الإعجاب بتلك النجاحات المشرفة ولا تملك إلا أن تصفق لذلك الجهد والإصرار على تحقيق الهدف مهما بلغت درجة المشقة في الوصول إليه، نماذج مشرفة للإنسان المصري البسيط عندما تتوفر له أقل الإمكانيات، ويا ليت الذين يقضون معظم أوقات حياتهم في الاستمتاع والاستجمام في تلك المدينة الرائعة يدركون هذه الحقيقة جيداً.
الأمر الثاني يتعلق بالرأي القائل إن هؤلاء الحمقى أرادوا إيصال رسالة سياسية لجهة ما بالداخل، وهذا في رأيي دليل آخر على نظرتهم الضيقة للأمور، فمعلوم للجميع أن تلك الجهة المراد إيصال الرسالة إليها لا تلقي بالاً لمثل تلك الرسائل ولا تصغي إليها ولا إلى غيرها سواء كانت بطريقة سلمية أو غير ذلك، فهي تسعى في سبيل تحقيق أهدافها وتطلعاتها وطموحاتها دون اكتراث لأي نقد من هنا أو هناك، فشعارها "ما أريكم إلا ما أرى"، وهؤلاء المجرمون الذين قاموا بتلك التفجيرات قد ساهموا بحماقتهم تلك في تقوية موقف تلك الجهة بدلاً من النيل منها.
رحم الله الأبرياء الذين لقوا حتفهم وهم صابرون مثابرون يسعون في سبيل الرزق على أيدي القتلة الذي لم يفهموا ولم يدركوا قول المولى عز وجل "...مَن قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومَن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً) المائدة/ 32، وسلمت مصر من كل الشرور ومن كل عدو يتربص بها من الداخل أو الخارج، وسلم أبناء مصر المخلصين الكادحين من كل سوء، فما يستحقه هؤلاء الصابرين ليس القتل والتفجير وإنما يستحقون أن يكونوا وساماً على صدورنا وتاجاً على رؤوسنا.
في صباح الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) من عام 2001 وصلت إلى مدينة شرم الشيخ بعد أن قطعت ما يزيد على ستمائة كيلومتراً من قريتي بإحدى محافظات شمال الصعيد لكي ألتحق بالعمل بقسم المكاتب الأمامية(الاستقبال) بإحدى الفنادق التي كان قد تم إنشاؤها حديثاً، وذلك بعد فترة انقطاع عن العمل في مجال السياحة دامت عدة شهور عملت قبلها بمدينة الغردقة الساحرة على ساحل البحر الأحمر.
وفي مساء نفس اليوم الذي وصلت فيه حدثت التفجيرات الإرهابية التي ضربت برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك ومبنى وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون)، وتسمّرت أمام التلفاز أشاهد ما لم يخطر على بال أحد من ضرب أهداف تمثل رموز الهيبة الأمريكية ممثلة في الاقتصاد والقوة، وبينما انبرى الكثيرون من حولي يهللون طرباً لتلك الهجمات، كان تفكيري يتناول الموضوع من جانب آخر لا أدري كيف غاب عن فكر هؤلاء العاملين في مجال السياحة وانصرفوا عنه وقلت في نفسي اتركهم فسوف تغيب السكرة وتحل الفكرة ويدركوا حجم الفاجعة والمأساة التي سيعانون منها كنتيجة غير مباشرة لما حدث، وأيقنت وقتها أن فرصتي للالتحاق بذلك العمل الذي جئت من أجله قد باتت شبه معدومة وأنه يجب عليّ – توفيراً للمال والوقت والجهد- أن أعود إلى قريتي الصغيرة، ولكنني آثرت أن أبقى هناك لبعض الوقت أولاً لاعتقادي بأنه ربما يكون هناك بصيصاً من الأمل بأن الأمور قد تستقر ولا يتأثر الوضع هناك وخاصة عندما كنت أفكر في آلاف الكيلومترات التي تفصلنا عن(موقع) الأحداث، وثانياً كنت أود أن أرقب الوضع في أهم الدن السياحية المصرية ومدى تأثرها بتلك الأحداث ومدى تأثر قطاع السياحة الحسّاس بتلك التفجيرات الإرهابية التي حدثت على الجانب الآخر من الأطلسي، وارتأيت ألا أضيع هذه الفرصة لكي أتابع الموقف عن قرب لكي أسجل ما أشهده في ذاكرتي فربما يجيء اليوم الذي أسطر فيه تلك التجربة على الورق وأعتقد أنه قد جاء.
عشرة أيام قضيتها بعد تلك الأحداث تابعت فيها التأثير المفجع الذي تعرضت له صناعة السياحة في هذه المدينة الهادئة التي تعجز الكلمات عن وصف روعتها وسحرها وجمالها، وقبل أن أتحدث عن تأثير ما حدث يكفي أن أقول إن نسبة الإشغال كانت في ذلك الوقت تزيد على ثمانين في المائة وأرجع الكثيرون ارتفاع نسبة الإشغال السياحي في تلك الفترة إلى أسباب عدة منها اندلاع الانتفاضة الثانية وإحجام الكثير من السائحين عن الذهاب إلى إسرائيل بسبب الأوضاع الأمنية الغير مستقرة هناك، ولكن في خلال أيام قليلة بعد الأحداث ظهرت تلك الآثار المفجعة بوضوح فقد هجر السائحون المدينة، وعلمت وقتها أنهم كانوا ينتظرون حجوزات طيران إلى بلدانهم وكانوا يقضون أوقاتهم أمام التلفاز لمتابعة ما قد سوف يحدث، وفي غضون أيام شرعت الكثير من الفنادق في تسريح الكثير من العاملين بها، بينما قامت فنادق أخرى بمنح أكثر من نصف العاملين بها أجازات مفتوحة بدون راتب إلى أن تتحسن الظروف، وذلك بسبب مغادرة السائحين لتلك الفنادق من ناحية وإلغاء الكثير من الحجوزات من ناحية أخرى، مما نتج عنه إغلاق كامل لبعض الفنادق بعد أيام قليلة من التفجيرات، وبعد أن تلاشى بصيص الأمل الذي كنت أتوهم وجوده قررت حزم أمتعتي، وعدت إلى قريتي غضبان أسفاً أصبّ اللعنات على هؤلاء الحمقى الذين ارتكبوا ذلك الفعل الإجرامي فقتلوا الأبرياء وسدّوا مصدر رزق للآلاف من البسطاء الذين لم تسعهم رحابة الوادي الفسيح لأسباب يعلمها الجميع في حين يتجاهلها البعض!
حدث كل هذا في مدينة على ساحل البحر الأحمر تبعد آلاف الكيلومترات عن موقع التفجيرات الإجرامية في نيويورك وواشنطن، وكنت أتساءل وقتها وأنا أرى بصيص الأمل في الالتحاق بالعمل يتلاشى:هل توقّع هؤلاء الحمقى وسفهاء العقول عند التخطيط لتلك الأفعال تأثير تلك الجرائم على إنسان بسيط مثلي والآلاف غيري الذين شدّوا الرحال إلى بلدانهم وقراهم لكي ينالوا نصيبهم الذي ينتظرهم من البؤس والشقاء والحرمان وذلك بعد انقطاع مصدر رزقهم على أيدي ثلة من المجرمين.
لكن لماذا أسرد هذه القصة الآن؟ أقول إنني ومن خلال سردي لتلك القصة أسجّل -كشاهد عيان-ما حدث إبان أحداث الحادي عشر من سبتمبر من تأثيرات مفجعة على قطاع السياحة تابعتها بنفسي، لكي تتخيلوا معي حجم المأساة التي يعانيها آلاف المصريين البسطاء الصابرين الذي يعملون في شرم الشيخ وغيرها من المدن السياحية الأخرى في مصر نتيجة لما حدث صباح السبت الماضي 23 يوليو (تموز) من أفعال إجرامية حقيرة ودنيئة لم يفكر فاعلوها أن الخاسر الأكبر بعد الضحايا الأبرياء الذين فقدوا أرواحهم نتيجة لتلك الأفعال هم العاملون المصريون في المدن السياحية، فهؤلاء المجرمون المأجورون لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة، تبت أيديهم وخسيء من يقف وراءهم، ألم يفكر هؤلاء الحاقدون في مستقبل هؤلاء العاملين الكادحين وتلك الأفواه التي يكدون لإطعامها ؟ ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون؟!
والله لقد اعتصر قلبي من الحزن والأسى وأنا أشاهد على شاشة التلفاز أحد الناجين يروي كيف أنه كان يتناول العشاء مع صديقه وتركه لثوان معدودة وعاد فلم يجد رفيقه ويقول في حسرة إن صديقه الذي لقى حتفه متزوج حديثاً، فقد قتله الجبناء وهو يعيش أجمل أيام عمره بعد أن كدّ وتعب وصبر وعانى إلا أن حقق حلمه في تكوين أسرة صغيرة، ويروي آخر كيف أنه انتهى للتو من تجهيز المحل لكي يبدأ العمل به في هذا الموسم السياحي إلا أن الجبناء قضوا على آماله وأحلامه، وأنا أعلم جيداً كم تتكلف تلك التجهيزات والإيجارات المبالغ فيها من ملاك تلك المحلات والتي يستأجرها شباب يبيعون فيها الهدايا والتذكارات للسائحين، ولعل هذان نموذجان يعبران عن حالة الآلاف من الشباب المجتهد الذي لم ينتظر وعوداً كاذبة أو تصريح برّاق زائف، وإنما سعوا جادين مجتهدين في طريق أرزاقهم، وراح الواحد منهم يجابه الصعاب وينحت في الصخر باحثاً عن فرصة عمل وسبب للرزق يقتات منه ويطعم الأفواه التي يعولها وربما تكن سبيلاً لتحقيق حلمه مثل أي شاب في تكوين أسرة بسيطة بعد أن بعد أن أصبح الغالبية العظمى من الشباب يجدون أنفسهم بين مطرقة الظروف الاقتصادية القاسية وسندان المبالغة في تكاليف الزواج المجحفة والمبالغ فيها.
ربما لم يدرك هؤلاء الحمقى الذين ارتكبوا تلك الأفعال الآثمة أمرين هامين أولهما أن المتضرر من جرائمهم تلك ليس مالك فندق "غزالة جاردنز" - الذي أصابه تدمير كلي - والذي يمتلك أيضاً المول التجاري الذي تم استهدافه أيضاً في منطقة السوق التجاري القديم، فمعلوم للجميع أن هذا الرجل المَرضي عنه –ندعوا الله أن يرضى عنا جميعاً - يمتلك عدّة فنادق في شرم الشيخ، فالرجل لن يتأثر كثيراً، ولكن الخاسر الحقيقي هو العامل البسيط الذي هجر أهله في قريته أو بلدته وقطع مئات الكيلومترات لكي يوفر لهم حياة كريمة آمنة ورضيَ وقنعَ بالعيش بينهم أسبوع على الأكثر في كل شهر أو شهرين وربما أكثر، فالمصري إنسان بسيط قنوع يرضى بالقليل وهو في نفس الوقت إنسان مثابر صابر كادح لا يرضخ للظروف إذا ما نجحت في قهره والتغلب عليه فما يلبث أن يعاود الكرّة مرة أخرى، وربما تجده يهجر ذلك المكان الذي مُنيَ فيه بالهزيمة باحثاً عن مكان آخر يستطيع التغلب فيه على تلك الظروف والانتصار عليها متطلعاً إلى أمل جديد وحياة ينسج خيوطها بعرقه وجهده ومثابرته، وكم كنت أشعر بالفخر وأنا أرى أمام عيناي نماذج توحي بالأمل والتفاؤل لشباب نجحوا في قهر تلك الظروف المعيشية القاسية، فأمام تلك التجارب تجد نفسك أسير الإعجاب بتلك النجاحات المشرفة ولا تملك إلا أن تصفق لذلك الجهد والإصرار على تحقيق الهدف مهما بلغت درجة المشقة في الوصول إليه، نماذج مشرفة للإنسان المصري البسيط عندما تتوفر له أقل الإمكانيات، ويا ليت الذين يقضون معظم أوقات حياتهم في الاستمتاع والاستجمام في تلك المدينة الرائعة يدركون هذه الحقيقة جيداً.
الأمر الثاني يتعلق بالرأي القائل إن هؤلاء الحمقى أرادوا إيصال رسالة سياسية لجهة ما بالداخل، وهذا في رأيي دليل آخر على نظرتهم الضيقة للأمور، فمعلوم للجميع أن تلك الجهة المراد إيصال الرسالة إليها لا تلقي بالاً لمثل تلك الرسائل ولا تصغي إليها ولا إلى غيرها سواء كانت بطريقة سلمية أو غير ذلك، فهي تسعى في سبيل تحقيق أهدافها وتطلعاتها وطموحاتها دون اكتراث لأي نقد من هنا أو هناك، فشعارها "ما أريكم إلا ما أرى"، وهؤلاء المجرمون الذين قاموا بتلك التفجيرات قد ساهموا بحماقتهم تلك في تقوية موقف تلك الجهة بدلاً من النيل منها.
رحم الله الأبرياء الذين لقوا حتفهم وهم صابرون مثابرون يسعون في سبيل الرزق على أيدي القتلة الذي لم يفهموا ولم يدركوا قول المولى عز وجل "...مَن قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومَن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً) المائدة/ 32، وسلمت مصر من كل الشرور ومن كل عدو يتربص بها من الداخل أو الخارج، وسلم أبناء مصر المخلصين الكادحين من كل سوء، فما يستحقه هؤلاء الصابرين ليس القتل والتفجير وإنما يستحقون أن يكونوا وساماً على صدورنا وتاجاً على رؤوسنا.
No comments:
Post a Comment