قناة الجزيرة وتطلعات الشعوب العربية
مما لا شك فيه أنه منذ أن انطلقت قناة الجزيرة قبل تسع سنوات أحدثت ثورة غير مسبوقة في المفاهيم الإعلامية في العالم العربي وحرّكت المياه الراكدة فيه وتناولت أموراً كانت تعتبر في السابق من المحرمات وحررت المشاهد العربي من سطوة الإعلام الموجّه الذي لا يكل ولا يمل من التغطية المكثفة البائسة لأنشطة الزعيم والحاكم الضرورة الذي لن يجود الزمان بمثله! وتخلّص المشاهد العربي من المحيط إلى الخليج من ذلك الملل الذي كان يعانيه من تصدّر ذلك الزعيم الملهم لجميع الأحداث والنشرات والتحليلات، وكنت إذا أردت مشاهدة نشرة الأخبار فكان من الأفضل لك - خاصة إذا كنت تعاني من ارتفاع ضغط الدم مثلي- أن تقوم بتشغيل التلفاز بعد أن تبدأ النشرة بربع الساعة على الأقل حتى تتجنب أن تصيبك أخبار أنشطة الزعيم وعائلته بالكآبة والملل العضال، وهو ما دفع المشاهد العربي إلى الهروب إلى المصادر الإعلامية الأخرى وخاصة الغربية منها سواء كانت قنوات فضائية أو إذاعات مسموعة، إلى أن جاءت الجزيرة فتصدرت المشهد وملأت هذا الفراغ باقتدار ووجد فيها المشاهد العربي ضالته وما كان يحلم به ويتوق إليه من تناول همومه التي وضعتها الجزيرة لأول مرة على خريطة الإعلام العربي، واكتسبت الجزيرة احترام الشارع العربي وهو الموقف الذي نتج عنه تعرضها لضغوط هائلة ولكنها صمدت في كل الأحوال أمام الكثير من الأمواج العاتية وأثبتت استقلاليتها وانحازت إلى الشعوب العربية المقهورة رغم تلك الضغوط التي تعرضت وتتعرض لها القناة والمحاولات المستميتة لثنيها عن موقفها ،وهو الموقف الذي قدمت القناة من أجله الكثير من التضحيات، فعلى سبيل المثال فقد قُصف مكتب الجزيرة في كابل بأفغانستان من قبل القوات الأميركية في نوفمبر 2001، وقصفت طائرة أميركية مكتب الجزيرة في بغداد في أبريل 2003 مما استشهد على إثره مراسل الجزيرة طارق أيوب، وآخرها قرار "المجاهد" إياد علاوي بإغلاق مكتب الجزيرة في "العراق الجديد" ! وهو ما يؤكد أن القناة لم تهادن محتل أو ظالم وإنما سعت فقط لكشف الحقيقة.
وعندما فشلت الأنظمة العربية وغيرها فشلاً ذريعاً في تحقيق أي نتائج ترجوها من تكثيف ضغوطها على القناة بكافة الوسائل؛ لجأت إلى آخر الأوراق في يدها والتي ثبُت فيما بعد أنها ورقة خاسرة بكل المقاييس، فقد لجأت بعض الحكومات إلى محاولة الدخول إلى ساحة المنافسة فعمدوا إلى إنشاء وتمويل قنوات فضائية إخبارية لكي تنافس الجزيرة ! لكن لم يمر الكثير من الوقت حتى ثبُت أن تلك القنوات أقل ما يقال عنها أنها قد ولدت ميتة وتعتبر صور كربونية مستنسخة من الإعلام العربي الرسمي الموجّه وورثت سمات الإعلام الرسمي المتهافت الذي يُسبّح بحمد الزعيم الذي سافر وقابل وقال وصرّح...الخ وتستطيع عزيزي القاري الوقوف على هذه الحقيقة جيداً من خلال التغطية الإخبارية لتلك القنوات ،وبعد أن "نجحت" إحدى هذه القنوات "بجدارة" في الانتهاء من تغطية وحل جميع هموم ومشاكل الأقطار العربية تفرّغت لتغطية ومتابعة أخبار حمل وولادة إحدى مذيعاتها وصوّرت لنا الحدث وكأنه فتحاً مبيناً !!
ولو علم القائمون على أمر تلك القنوات البائسة سر نجاح الجزيرة لكانوا قد جنبوا أنفسهم تبديد أموالهم في الهواء، ولكن ما أغمضوا عيونهم عنه هو أن السر وراء تفوق الجزيرة هو انحيازها للمواطن العربي المقهور وهو ما جعل جمهورها من مختلف الدول العربية يعلقون الآمال على قناتهم "قناة الجزيرة" في أن تصدع بمعاناتهم وألا تهمل ما يدور في بلدانهم بعد أن صارت الجزيرة رمزاً لتطلعات تلك الشعوب المقهورة.
تجسدت تلك التطلعات والآمال التي تحملها الجماهير العربية تجاه قناة الجزيرة في كتابات ثلاثة كتاب من ثلاث دول عربية مختلفة تناولوا الموضوع سعياً إلى حث القناة على تركيز اهتمامها على ما يدور من أحداث في بلدانهم، أولهم الكاتب المصري سليم عزوز الذي كتب مقالاً بعنوان " هل باعت قناة الجزيرة القضية المصرية ؟" (القدس العربي 26/6/2005) تناول فيه الموضوع بعد أن نشرت جريدة الدستور المصرية عن نفس الموضوع أيضاً تحت عنوان "انسوا قناة الجزيرة" فقال: "...فان تغطية (الجزيرة) للأحداث التي تشهدها مصر في الآونة الأخيرة، يؤكد ان في الأمور ـ كما يقولون ـ أمورا" ويقول : "وقد انطلقت اسأله(يقصد مسؤول بالجزيرة) لعلي أجد عنده إجابة علي السؤال، لكنه تعامل معي علي أساس انه (يتهيأ لي) أي أتصور أشياء لا أساس لها، ولولا ان كثيرين يتفقون معي لذهبت الي مستشفي أبو العزايم للأمراض النفسية لاطلب العلاج من مرض الوهم.. او التوهم!فأنا ربما بنيت هذا التصور لان الجزيرة تنقل وجهة النظر الأخري، وقلت له أنني لا أمانع في استضافتكم المتكررة للدكتور مصطفي الفقي عن الحزب الحاكم ليلت ويفت، ويخرج عن الموضوع دون ان يستوقفه المذيع او يقاطعه او يسحبه الي القضية محل النقاش. ولا أمانع في التعامل مع المسجلين خطر الذين يسحبهم الحزب الحاكم لمظاهرات حركة كفاية، علي انهم يعبرون عن شعبية السلطة، وتسليط الكاميرات عليهم حتي يتأكد المشاهد أنها مثل زبد البحر، فالذي اقصده هو تجاهل كثير من الفاعليات، واختزال بعضها، والتعامل بعدم اكتراث مع ما يتم نقله!" وقد أكمل سليم عزوز التعبير عن ظنونه أو (ما يتهيأ له) في مقال آخر بعنوان "عن الجزيرة والذي منه!" (القدس العربي 3 /7/2005 ) مستشهداً بأكثر من موقف يؤكد ظنونه (أو ما يتهيأ له) وأهمها موقف مراسل القناة في القاهرة في محاكمة أيمن نور.
ثاني هؤلاء الكتاب العرب هو الكاتب الجزائري توفيق رباحي الذي كتب مقالاً تحت عنوان "هل باعت الجزيرة المغرب العربي؟" ( القدس العربي 19/7/2005) يحسد أهل مصر على حظهم من "كعكة" الجزيرة ويلوم القناة على إهمالها المغرب العربي فيقول:"..وتذكرت زميلا مغربيا سألني في نفس الاسبوع لماذا لا اكتب عن الجزيرة وتقصيرها بحق منطقة المغرب العربي رغم انها تمتلك اكبر كتلة مشاهدين هناك."، ويقول رداً على سليم عزوز: "عندكم في القاهرة مكتب له شنة ورنة، وعندهم في المغرب مكتب الا ربعا (اقبال الهامي مسحوب اعتمادها منذ شهرين)، وفي الجزائر مكتب علي الورق (محمد دحو اوقف بعد شهور معدودة من بدء العمل بذنب ليس ذنبه)، وفي تونس مكتب في الحلم، وفي ليبيا مراسل اعانه الله علي نفسه اولاً، وفي موريتانيا مراسل بدون عنوان يغطي كل غرب افريقيا. مكتب الجزيرة في مصر امر واقع، والجدل الان حول نوعية ادائه. اما بالمنطقة التي تسمونها شمال افريقيا، فلم تصل الجماعة هناك الي الامر الواقع"
ثالث هؤلاء الكتاب العرب هو الكاتب المغربي المصطفي العسري الذي كان أكثرهم عنفاً في توجيه اللوم لقناة الجزيرة على عدم تناولها للكثير من الفعاليات في المغرب العربي فقد كتب مقالاً (الراية 31/8/2005) يقول فيه "فالوطن العربي عند أهل الجزيرة ينتهي عند الحدود مع ليبيا، والعالم العربي مختزل في الوضع بالعراق وبفلسطين، وفي الانتخابات اللبنانية التي خصصت لها تغطيات مباشرة جعلتنا في مغرب الوطن العربي علي علم بمختلف التيارات السياسية والطوائف الدينية بهذا البلد الذي لا يزيد عدد سكانه عن الأربعة ملايين نسمة هم سكان الدار البيضاء فقط،" ويكمل قائلاً: "إلا أن المتتبع لبرامج الجزيرة الإخبارية والجزيرة مباشر يراها لا تهتم بما يقع في مغرب الوطن العربي رغم أن شمس الإصلاحات السياسية باتت تشرق من المغرب علي حد ذكر الأخ فيصل القاسم" ويختتم الكاتب مقاله قائلاً "المهم، إن القصد من وراء هذه الأسطر هو التعبير عن غضبنا من قناة الجزيرة العزيزة علينا هنا في مغرب العالم العربي، لأننا نعيش دائما علي هامش اهتماماتها ولا نعلم سبب ذلك"
تلك كانت مقتطفات من مقالات ثلاثة من الكتاب من ثلاث أقطار عربية مختلفة يلوم كل منهم قناة الجزيرة على عدم الاهتمام – بالصورة التي يريدها- بما يحدث في بلده ويحثها على بذل المزيد من الجهد في تناول ما يدور في بلدانهم من فعاليات وأحداث وأن تنقل صورة ما يحدث هناك دون تجاهل، ولكن هناك سؤال يتبادر إلى الذهن هو لماذا اختار هؤلاء الكتاب وغيرهم قناة الجزيرة بالذات دون غيرها من القنوات الإخبارية العربية- وما أكثرها - ويدعونها أن تهتم بما يدور على أراضي بلدانهم وتتناوله ولا تتجاهله؟
والإجابة على هذا السؤال هي أسهل ما يكون ويعرفها كل مواطن عربي بسيط وهي أن الجزيرة فقط هي ما تتمتع بأكبر قدر من المصداقية لدى الشعوب العربية وهي تثق في نزاهة القناة وانحيازها لصالح قضاياهم وهمومهم وبالتالي فإن من حق تلك الشعوب العربية المغلوب على أمرها أن تلوم الجزيرة عندما يفوتها تناول بعض مما يحدث على أرضها وأن تطلب منها أن تظل دائماً على عهدها معهم وهي بالفعل مسؤولية عظيمة ملقاة على عاتق تلك القناة العريقة وأحسبها على قدر المسؤولية مهما كلّفها ذلك.
No comments:
Post a Comment