Saturday, May 06, 2006

مُفارقة من الواقع

يحلّ في هذا الشهر "يوم" أو "عيد" ميلاد صديق جديد له، وقد يجدها مناسبة للحديث عن تجربته مع هذه المناسبة والاحتفال بها، فعندما يسمع صاحبنا عن مثل تلك المناسبات والاحتفاء بها ترتسم على وجهه ابتسامة لا تخلو من سخرية، وهو لا يدري أيسخر من الآخرين أم على نفسه يتحسّر، فقد تعوّد صاحبنا أن يتجاهل يوم مولده من كل عام ونادراً ما يشير إليه وقلما تحدث عنه نظراً ليقينه أنه يوم لا يستحق الاحتفال به أو حتى مجرد تذكره ولن يكون مبالغاً إن قال إنه يوم يأتي على رأس قائمة الأيام التي لا يرغب حتى في تذكرها.

وربما ترجع وجهة النظر تلك إلى نشأته في مناخ اجتماعي بسيط لم تكن مثل هذه المناسبات تلقى أدنى اهتمام من أحد ممن كانوا حوله، فالجميع كان يشغلهم ما هو أهم في حياة صعبة يمر اليوم منها وكأنه دهر، في حياة يأبى اليوم فيها أن يغادر بثقله وهمومه ومشاكله، يتهادى اليوم ويتباطأ كأنه ليل طويل وصفه امرؤ القيس قائلاً :
وليل كموج البحر ارخى سدوله **عليّ بانواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطى بصلبه ** واردف اعجازا وناء بكلكل
الا ايها الليل الطويل الا انجلي** بصبح وما الاصباح منك بامثل

هكذا كانت حياته تماماً مثل ذلك الليل الثقيل الذي ضجر منه شاعرنا امرؤ القيس، وفي ذلك الوسط الاجتماعي البسيط نشأ، فأحياناً كان يتذكر يوم مولده وأحياناً أخرى يتذكره بعد أن يكون قد غادره ببضعة أيام، وفي كل الأحوال لم يحاول أن يلفت انتباه أحد أن هذا اليوم الذي مضى هو يوم مولده، ليقينه أنه لن يهتم به أحد وإن حدث فلن تزيد عن ابتسامة في الغالب تكون مصطنعة يخرج معها تعبير "قياسي" يُطلق في مثل تلك المناسبات ولسان حال مُحدّثه يقول له" إنك تهتم بسفائف الأمور"،ولا عجب في هذا،إذ أن الاهتمام بمناسبة كهذه في مثل تلك الظروف يعتبر ضرباً من الرفاهية التي لا حيز لها في تلك البيئة القاسية.

ومنذ أن اشتد عوده كان ولا زال دائم الحرص على الإحتفاء -على طريقته الخاصة- بذلك اليوم الذي خرج فيه إلى هذه الدنيا لأنه وببساطة كان يضعه مكشوفاً أمام فشله على جميع الأصعدة، وستعجب إن قلت لك إن الذين يعرفونه جيداً يرون فيه نموذجاً للشاب الناجح المثابر، لكن نظرته لنفسه تتناقض مع نظرة الناس له،ربما لطموحه الزائد وحماسه المعهود ولهذا يبدو كل إنجاز يحققه خطوة صغيرة لا تكاد تبين، فيرى في يوم مولده مناسبة لجلد الذات وحصر الإخفاقات،فيبحث عن مكان هاديء يجلس فيه منفرداً ثم يباغت نفسه بالسؤال: ذاك عام مضى ماذا أنجزت فيه ؟ وتتوالى الأسئلة الصعبة وترتفع درجة الإحباط والأسى على ماض أحاطت به هالات من الإخفاق حسب رأيه.

يصل الإحباط إلى مداه في محاسبة ومراجعة الذات لسنوات طويلة مضت يسرد فيها بينه وبين نفسه كشف حساب يتجاوز ذلك العام الذي مضى إلى سنوات عديدة مضت،يقضي الساعات في هذه الجلسة الطويلة منفرداً شارداً في استرجاع ما مضى من أحداث ومواقف وقرارات وخطوات اتخذها وهل ثُبت مع الزمن صحتها أم أنها كانت خطىً مشاها خطأ؟!
وبينما يسترجع تلك الحقب يجد نفسه ودون إرادة ولا حتى رغبة منه يتعثر في ذكريات مؤلمة لا يود أن يتذكرها وكم تمنى أن يتخطاها في ذلك السرد التاريخي، ثم ما يلبث أن ينحدر إلى واد آخر سحيق من الأحداث المريرة تأخذه في دوامة مؤلمة، لكنه يتمالك نفسه ويستعيد توازنه مستغرباً ذلك الحضور الغريب لتلك الأحداث القاتمة حيّة في مخيلته رغم مرور السنوات وكأنها حدثت بالأمس القريب، يهرب بسرعة من شراك تلك الذكريات الغير مرغوبة والتي قد ظنّ خطأ أنه قد تجاوزتها منذ سنوات، بسرعة ينجح في الهرب من شراكها ثم تتوالى الأحداث وتتقارب حتى يصل إلى هذه "اللحظة الصامتة"، ينظر في ساعته فيدرك أن الوقت قد مر بسرعة غريبة، يلتفت حولي ويتشبث بالواقع ويدرك أن الماضي قد ولّى بلا رجعة، يشكر الله على ما قد اختاره له، ثم يعود إلى الحاضر الذي هرب منه متطلعاً إلى المستقبل الذي يخاف منه.

لقد أدرك صاحبنا أنه ابتعد كثيراً عما يجب أن يردده- مثل الآخرين- على مسامع صديقه الجديد فاستدرك الأمر قائلاً "معذرة صديقي فقد ابتعدت كثيراً عن المناسبة التي تنتظرها في مايو من كل عام وتعتبرها "أحلى" مناسبة في حياتك، وتترقبها عائلتك الصغيرة المثالية للتعبير عن حبها واهتمامها ورعايتها لك والتي ترسم في مثل تلك المناسبات لوحة جميلة تنطق بقيمة التماسك والتلاحم والتناغم العائلي، والذي لو تدرك قيمته حقاً لسجدت لله آناء الليل وأطراف النهار شكراً على هذه النعمة العظيمة التي أنا على يقين أنك مهما طال بك العمر ومهما حدثك عنها مَنْ حُرم منها فلن تدرك عظمة هذه النعمة.

No comments: