سلطـان الذكـرى
لا أعرف كم يحتاج الواحد منا من الأيام والسنين لكي يتمكن من نسيان وطيّ صفحة ماضية من حياته، وكم من الوقت لكي ينسى ما ألمّ به في الماضي من مواقف محزنة وأحداث لا يود أن يتذكرها، وهي بحق أمنية غالية طالما تمنى الواحد منا أن تتحقق، لأن مرور طيف الذكرى محملاً بأحداث وصور تلك المواقف يترتب عليه عذابات لا تُحتمل في حياة مَنْ عانى مرارة الأيام وقسوة السنين على أيدي من توهّم الوفاء فيهم، و مَنْ جاءته الطعنات مِن درعه الذي احتمى به واعتقد – لنقاء سريرته - أنه يقيه ضربات الزمن فإذا به يتحول إلى خنجر مسموم يتوجه في غدر إلى صدره المكشوف ليستقر في أعماق قلبه الذي كان بيتاً وملاذاً آمناً له وحده، وما تلبث حياته أن تتلون بألوان داكنة قاتمة، وخاصة عندما يسلب الله الإنسان نعمة النسيان فيكون ذلك إيذاناً باللوعة والمعاناة في تذكر ما لا يود أن يتذكره وفي سعي دائم إلى نسيان لا يستطيع إليه سبيلاً، وتصل المعاناة ذروتها مع بزوغ فجر "آب"* من كل عام فنجده يردد:"آب" حزين يأبى أن يفارقني مع ذكريات شتى عن معاناتي.
وتتضاعف معاناة ذلك الذي يتناسى ولا يستطيع عندما يتذكر أنه لم يقترف إثماً ولا جريرة، وربما كان قد سعى قدر استطاعته في سبيل تحقيق ذلك الهدف، إلا أن هناك أُناساً غرّهم بُهرج الدنيا الخدّاع في تعجّل غريب ليقضوا بأيديهم على تلك النبتة النضرة التي طالما رواها بأحلامه وأمانيه، ولكن لا أدري لماذا إذن يحزن ذلك النقيّ الذي لم يدّخر جهداً في سبيل تحقيق هدفه رغم الصعاب، فلا يجب أبداً أن يستسلم لذلك الحزن لأنه في الواقع لم يخسر شيئاً ذا قيمة ولكنه قد خسر الوهم وخسارة الوهم مكسب.
كلمات رائعة ومعبرة قرأتها منذ أكثر من عامين للأستاذ الشربيني عاشور وما أزال أذكرها، فقد تحدث عن فكرة خسارة الوهم فقال ".. وهي فكرة يمكن تعميمها على أي شيء يختبره الإنسان ثم يكتشف فجأة أو بعد تجربة أنه لم يكن عند مستوى ما فكرة فيه أو شعر به. ومن ثم فإنه عندما يتنازل عنه أو يرفضه أو يغير فكره ومشاعره نحوه فإنه لا يخسر في الحقيقة شيئاً مهماً. وإنما يخسر الوهم الذي عاشه تحت سطوة الفكر والشعور الخاطئ. فأنت عندما تحب امرأة وتتوله في حبها ثم تكتشف خيانتها أو أنها عبيطة وبشعة من داخلها ولا تقدر قيمة عواطفك نحوها ثم تأخذ قرارك بنفيها من عالمك أو تجفيف مشاعرك نحوها .. عندما تفعل ذلك .. أنت لا تخسر هذه المرأة التي أحببتها وإنما تخسر وهمك فيها .. وهمك بأنك أحببت من لا يستحق.وهكذا .. انظر إلى أفكارك التي اكتشفت خطأها ومشاعرك التي أيقنت أنها صرفت تجاه من لا يستحقها.. انظر إليها بفكرة خسارة الوهم.. ستستريح جداً.. وستبدأ وهماً جديداً.. لكن وفي كل مرة عندما تكتشف وهمك تراجع فوراً وقل في نفسك: إنني خسرت الوهم.. لم أخسر شيئاً ذا قيمة.. لأنك أنت القيمة في الحقيقة وقيمتك تأتي من مشاعرك ونظافتك ومحبتك التي بذلتها حتى لمن كانوا وهماً في حياتك."
نعم، لا يجب أن يحزن الإنسان أو يلوم نفسه على نقائه وطهارته ونبل هدفه حتى لو كان ذلك وبالاً عليه، ولكن على العكس لابد أن يشعر بالفخر والزهو لأنه كان مترفعاً عن كل ما يعكر نقاء الصورة التي حلم بها وسعى جاهداً لكي يرسمها على أرض الواقع بكفاحه وعرقه، وحاول نسج خيوط تلك الحياة التي يتطلع إليه بمثابرته وصبره على ظروف من صنيعة آخرين وجد نفسه فيها ولم تكن أبداً وليدة اختياره، بل إنه سعى بكل ما أوتي من قوة أن يغير تلك الظروف ويتغلب عليها مهما كلفه ذلك في سبيل تحقيق هدفه الأسمى الذي طالما تطلع إليه.
ولكن ذلك كلاماً نسطره بينما يصدع الواقع بحقيقة أخرى وهي أن الأمر ليس بأيدينا فهناك أشياءً خارجة عن إرادة الإنسان ، مثل رمشة العين وخفقان القلب وليس هناك من سبيل للتحكم فيها، فكم تمنى وحلُم هؤلاء الذين يعانون مرارة الذكرى بوسيلة سحرية ناجعة لكي يظفروا بتلك النعمة العظيمة.. نعمة النسيان لكي يتخلصوا إلى الأبد من سطوة تلك الذكريات المريرة، فهل هناك من سبيل إلى تلك الوصفة السحرية وهل هذا ممكناً حقاً ؟
تأتينا الإجابة على ذلك السؤال من تساؤل آخر يطرحه الشاعر أحمد رامي ذو الحس المرهف في قصيدته الرائعة "ذكريات" فيتساءل: "كيف أنساها وقلبي لم يزل يسكن جنبي ؟" فهنا يكمن السر وذلك هو موطن الداء، فطالما أن هناك قلباً يخفق وفؤاداً ينبض بالحياة لن تتحقق غاية النسيان ولن يحصل ذلك الشقي على مراده ولن يتمكن من نسيان تلك الذكريات، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً وتشاء إرادته عز وجل أن يريح هذا الكائن الشقي من تلك الحياة التي لم يتمنْ فيها شيئاً وناله، حتى عندما وجد الحلم يدنو منه توهم أنه قد قبض بيديه النظيفتين على الدنيا وتوهّم أن الله يكافئه عن كل ما لاقى من شقاء في هذه الدنيا الظالم أهلها واعتقد أن وقت الجزاء قد حان لكي يُكافأ على صبره ومثابرته ومعاناته طوال سنوات من الحرمان، ولكنه أفاق من غفوته التي طالما تمنى أن تطول ليدرك أن الأمر لم يكن أكثر من أضغاث أحلام وأن من كُتب عليه الشقاء يلازمه ولا يفارقه إلى أن يغادر هذه الدنيا ربما يجد راحته هناك في دار العدل.
وأختم بهذه الأبيات للشاعر العراقي حسن المرواني :
دَعْ عنك لَوْميْ وَأعزفْ عَنْ مَلامَاتي
إنْي هَويتْ سَريعاً مِنْ مُعاناتي
****
أنا الذي ضاع لي عامان من عمري
وتتضاعف معاناة ذلك الذي يتناسى ولا يستطيع عندما يتذكر أنه لم يقترف إثماً ولا جريرة، وربما كان قد سعى قدر استطاعته في سبيل تحقيق ذلك الهدف، إلا أن هناك أُناساً غرّهم بُهرج الدنيا الخدّاع في تعجّل غريب ليقضوا بأيديهم على تلك النبتة النضرة التي طالما رواها بأحلامه وأمانيه، ولكن لا أدري لماذا إذن يحزن ذلك النقيّ الذي لم يدّخر جهداً في سبيل تحقيق هدفه رغم الصعاب، فلا يجب أبداً أن يستسلم لذلك الحزن لأنه في الواقع لم يخسر شيئاً ذا قيمة ولكنه قد خسر الوهم وخسارة الوهم مكسب.
كلمات رائعة ومعبرة قرأتها منذ أكثر من عامين للأستاذ الشربيني عاشور وما أزال أذكرها، فقد تحدث عن فكرة خسارة الوهم فقال ".. وهي فكرة يمكن تعميمها على أي شيء يختبره الإنسان ثم يكتشف فجأة أو بعد تجربة أنه لم يكن عند مستوى ما فكرة فيه أو شعر به. ومن ثم فإنه عندما يتنازل عنه أو يرفضه أو يغير فكره ومشاعره نحوه فإنه لا يخسر في الحقيقة شيئاً مهماً. وإنما يخسر الوهم الذي عاشه تحت سطوة الفكر والشعور الخاطئ. فأنت عندما تحب امرأة وتتوله في حبها ثم تكتشف خيانتها أو أنها عبيطة وبشعة من داخلها ولا تقدر قيمة عواطفك نحوها ثم تأخذ قرارك بنفيها من عالمك أو تجفيف مشاعرك نحوها .. عندما تفعل ذلك .. أنت لا تخسر هذه المرأة التي أحببتها وإنما تخسر وهمك فيها .. وهمك بأنك أحببت من لا يستحق.وهكذا .. انظر إلى أفكارك التي اكتشفت خطأها ومشاعرك التي أيقنت أنها صرفت تجاه من لا يستحقها.. انظر إليها بفكرة خسارة الوهم.. ستستريح جداً.. وستبدأ وهماً جديداً.. لكن وفي كل مرة عندما تكتشف وهمك تراجع فوراً وقل في نفسك: إنني خسرت الوهم.. لم أخسر شيئاً ذا قيمة.. لأنك أنت القيمة في الحقيقة وقيمتك تأتي من مشاعرك ونظافتك ومحبتك التي بذلتها حتى لمن كانوا وهماً في حياتك."
نعم، لا يجب أن يحزن الإنسان أو يلوم نفسه على نقائه وطهارته ونبل هدفه حتى لو كان ذلك وبالاً عليه، ولكن على العكس لابد أن يشعر بالفخر والزهو لأنه كان مترفعاً عن كل ما يعكر نقاء الصورة التي حلم بها وسعى جاهداً لكي يرسمها على أرض الواقع بكفاحه وعرقه، وحاول نسج خيوط تلك الحياة التي يتطلع إليه بمثابرته وصبره على ظروف من صنيعة آخرين وجد نفسه فيها ولم تكن أبداً وليدة اختياره، بل إنه سعى بكل ما أوتي من قوة أن يغير تلك الظروف ويتغلب عليها مهما كلفه ذلك في سبيل تحقيق هدفه الأسمى الذي طالما تطلع إليه.
ولكن ذلك كلاماً نسطره بينما يصدع الواقع بحقيقة أخرى وهي أن الأمر ليس بأيدينا فهناك أشياءً خارجة عن إرادة الإنسان ، مثل رمشة العين وخفقان القلب وليس هناك من سبيل للتحكم فيها، فكم تمنى وحلُم هؤلاء الذين يعانون مرارة الذكرى بوسيلة سحرية ناجعة لكي يظفروا بتلك النعمة العظيمة.. نعمة النسيان لكي يتخلصوا إلى الأبد من سطوة تلك الذكريات المريرة، فهل هناك من سبيل إلى تلك الوصفة السحرية وهل هذا ممكناً حقاً ؟
تأتينا الإجابة على ذلك السؤال من تساؤل آخر يطرحه الشاعر أحمد رامي ذو الحس المرهف في قصيدته الرائعة "ذكريات" فيتساءل: "كيف أنساها وقلبي لم يزل يسكن جنبي ؟" فهنا يكمن السر وذلك هو موطن الداء، فطالما أن هناك قلباً يخفق وفؤاداً ينبض بالحياة لن تتحقق غاية النسيان ولن يحصل ذلك الشقي على مراده ولن يتمكن من نسيان تلك الذكريات، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً وتشاء إرادته عز وجل أن يريح هذا الكائن الشقي من تلك الحياة التي لم يتمنْ فيها شيئاً وناله، حتى عندما وجد الحلم يدنو منه توهم أنه قد قبض بيديه النظيفتين على الدنيا وتوهّم أن الله يكافئه عن كل ما لاقى من شقاء في هذه الدنيا الظالم أهلها واعتقد أن وقت الجزاء قد حان لكي يُكافأ على صبره ومثابرته ومعاناته طوال سنوات من الحرمان، ولكنه أفاق من غفوته التي طالما تمنى أن تطول ليدرك أن الأمر لم يكن أكثر من أضغاث أحلام وأن من كُتب عليه الشقاء يلازمه ولا يفارقه إلى أن يغادر هذه الدنيا ربما يجد راحته هناك في دار العدل.
وأختم بهذه الأبيات للشاعر العراقي حسن المرواني :
دَعْ عنك لَوْميْ وَأعزفْ عَنْ مَلامَاتي
إنْي هَويتْ سَريعاً مِنْ مُعاناتي
****
أنا الذي ضاع لي عامان من عمري
وباركت وهمي و صَدّقت افتراضاتي
****
****
عامان ما رفّ لي لحن على وتر
ولا استفاقت على نور سماواتي
****
****
عندي أحاديث حزن كيف أسطرها
تضيق ذرعاً بي أو في عباراتي
****
غداً سأذبح أحزاني وأدفنها
غداً سأطلق أنغامي الضحوكات
_____________________________
* "آب" (شهر أغسطس) وهو الشهر الثامن في التقويم الميلادي
****
غداً سأذبح أحزاني وأدفنها
غداً سأطلق أنغامي الضحوكات
_____________________________
* "آب" (شهر أغسطس) وهو الشهر الثامن في التقويم الميلادي
No comments:
Post a Comment