Tuesday, August 30, 2005

(2)المعارضة المصرية وتجميل الوجه العكر
الإخوان المسلمون

يقول البعض عن جماعة الإخوان المسلمين أنها كبرى جبهات المعارضة المصرية وأكبر الكتل السياسية في الشارع المصري، ولكنني أرى أن هذا الأمر يحتاج إلى توضيح وربما إلى تصحيح، حيث أجد تلك المعلومة تفتقر إلى الدقة لأن هذا الطرح يعتبر حقيقة في حالة واحدة وهي أن يكون أن كل إنسان متدين في مصر يعتبر من الإخوان كما يحاول الإخوان تصوير ذلك، فهم يفترضون أن أي إنسان متدين لابد وأن يكون من الإخوان، وهم بذلك يستغلون حقيقة أن الشعب المصري متدين بطبعه من قديم الأزل ومنذ آلاف السنين وتشهد على ذلك جدران المعابد الفرعونية التي ما تزال قائمة تروي هذه الحقيقة وتؤكدها.

وفي هذا الوسط الذي يغلب عليه التدين نجد أنه من الطبيعي جداً أنه إذا وقف أي إنسان ونادى في البرّية يا قوم: "الإسلام هو الحل" سيلتف حوله المسلمون البسطاء من أبناء مصر مباشرة دون نقاش وهذا هو سر قدرة الإخوان على الحشد الجماهيري، وقد لمست ذلك بنفسي وخاصة بين عموم الناس من البسطاء، وهو ما يجعل البعض يتوهم أن الإخوان هم أكبر الكتل السياسية شعبية في الشارع المصري، وأرى أن الحكومة هي التي جعلت من القزم عملاقاً، فالممنوع مرغوب وبمجرد أن تجد الأمن يُضيّق على أحد المرشحين من الإخوان تجده يحصد أصوات الغوغاء الذين يجذبهم ذلك الشعار البرّاق، وهذا شيء طبيعي ومتوقع من بسطاء الناس الذين يزحفون خلف من يطلق تلك الشعارات الحماسية التي تلهب مشاعرهم دون أن يناقشوا من يحمل هذا الشعار وينادي به وهل من ثمة مؤشرات على صدق نيته في تطبيق المباديء التي يحمها هذا الشعار، ولولا ذلك التضييق الأمني الساذج على مرشحي الجماعة في إنتخابات عام 2000 ما حصلوا على السبعة عشر مقعداً في مجلس الشعب (البرلمان) وقد شاهدت بنفسي كيف أن البسطاء من أبناء وطني ينساقون بشدة وراء عواطفهم التي يشكلها الدين في الغالب الأعم وذلك بطبيعتهم البسيطة النقية التي لا يشوبها خبث أو مكر وبالتالي لا يتوقعونه من أحد خاصة المرشح الذي يحمل شعار الدين ويبدو وكأنه منقذ البشرية من الضلال المبين.

وهنا أدعو حكومتنا الرشيدة إلى تجربة أسلوب آخر جديد "للفكر الجديد" في التعامل مع تلك الجماعة وأن تترك لهم الحبل على الغارب وأن تمنحهم الحرية في لقاء الجماهير لأن الناس تسمع عنهم الأساطير وهي في نفس الوقت لا تستطيع لقاء هؤلاء الأبطال "المؤمنين" الذي يريدون أن يطبقوا شرع الله وبالتالي يُصدّق الناس ما يسمعونه فقط، كما أن هناك أشكالاً أخرى من العمل الإسلامي الدعوي إذا تم السماح لهم بالعمل في مجال الدعوة بحرية فسوف يكون ذلك إيذاناً بدّق أول مسمار في نعش هذه الجماعة ونهاية تلك الأسطورة التي يروج لها البعض، وأقصد هنا تشجيع وإتاحة الفرصة للجماعات الإسلامية التي تمارس أنشطة الدعوة والتي لم تتخذ العنف أسلوباً ولم تتبناه منهجاً، لأن من يمارس العنف كوسيلة للتغيير ليس له مكاناً بيننا.

ومن المعلوم أن تلك الشعارات التي يطلقها الإخوان هي فقط لكسب أصوات البسطاء الذين تحدثت عنهم فالبراجماتية(المذهب العملي المبني على المنفعة) هي سياسة الإخوان في كل خطاهم وسعيهم الدائم لتحقيق مآربهم التي ليست إلا أهدافاً سياسية بالدرجة الأولى، فهم يستخدمون الدين كسلاح ذو حدين لترهيب المعارضين لهم وإشهاره في وجه كل منتقديهم من ناحية ومن ناحية أخرى تبرير توجهاتهم وحشد الغوغاء خلفهم، فالجماعة بالنسبة لهم فوق كل شيء وقبل كل غاية، ولن أستشهد بكلام أحد من خارج الجماعة وإنما هنا أستشهد بتصريح لأحد أهم أقطاب الجماعة وعضو مكتب الارشاد الدكتور عبد المنعم أبوالفتوح التي أكد فيها أن شعار الاخوان الشهير «القرآن دستورنا» شعار عاطفي لا يعبر عن المنهج السياسي للجماعة (الشرق الأوسط 19 يوليو الماضي).

أضف إلى ذلك الانتهازية واستغلال المواقف لتحقيق مآربهم مهما كان الثمن، فهم يستفيدون من جهد الآخرين لكن لا يستفيد من جهدهم أحداً غيرهم، فقد قطفوا ثمرة كسر حاجز منع المظاهرات مستفيدين بذلك من جهد حركة "كفاية" التي نجحت في ذلك رغم حداثة عهدها، ووجدنا الإخوان يخرجون إلى الشارع "وحدهم" حتى يثبتوا للجميع أنهم "كُثر" وحتى يقوى موقفهم في "الصفقات" التي يبرمونها مع النظام الذي يهاجمونه بكرة وأصيلا !

ولعل آخر مواقفهم "الوطنية" كانت يوم الخميس 14 يوليو الماضي في مظاهرة حركة كفاية ضد البطالة أمام قصر عابدين، فقد أعلن الإخوان قبلها أنهم قد قرروا تأجيل مظاهرة كانوا قد قرروا تنظيمها - في اليوم السابق لمظاهرة كفاية - تحت لواء التحالف الوطني الذي يتزعمونه، فهم لا يعملون تحت زعامة أحد غيرهم فهم يرون أنهم وكلاء الله في الأرض وهم فقط الجديرون بالزعامة وكيف يطمع أحد في الزعامة والمُلك وهم أحق بالمُلك منه !! وقد أعلنوا أن هذا التأجيل هو للتضامن مع حركة كفاية وأعلنوا أنهم سيشاركون في هذه المظاهرة، ولكن عندما جاء يوم المظاهرة كانت مفاجأة للكثيرين – ولست منهم – وهي عدم مشاركة الإخوان فيها، فعدم مشاركتهم في مظاهرة دعت لها كفاية لم تكن مفاجأة بالنسبة لي ولكن المفاجأة كانت ستكون إذا شاركوا فيها لأنهم كما قلت يستفيدون ولا يفيدون.

ولا يبرز على السطح أمام أعين الناس تلك المواقف الماكرة من قِبل الجماعة عبر النقد الواضح في وقت أصبح فيه انتقاد الإخوان من المحرمات وتوجيه أي نقد إلى "كبيرهم" يعتبر رجس من عمل الشيطان! فنحن إذن أمام زمرة من الناس يؤثرون جماعتهم وبقائها وإستمرارها على أي مصلحة أخرى ولو كانت مصلحة الوطن الذي طالما عانى من مناوراتهم وصفقاتهم مع النظام، وهي إن تحالفت مع أحد يكون من منطق الإستفادة ممن يتحالفون معهم.

فكيف بالله عليكم نثق في أمثال هؤلاء ؟ وكيف نحسب أمثال هؤلاء على المعارضة؟ فالمعارضة الحقيقية هي تلك التي تطرح نفسها كبديل عن السلطة الحاكمة وتُسخّر كل جهدها في سبيل تحقيق ذلك وتُظهر بوضوح أمام جموع الشعب مبادئها ومواقفها دون لبس أو مواربة، وأن لا تتوانى في نقد وكشف وفضح نقاط الضعف والقصور في سياسة النظام الذي يحكم، لا أن تساهم بشكل أو بآخر في ستر تلك العيوب والعورات عبر لعب دور "كرتوني" "ديكوري" يساهم في تجميل تلك الصورة القاتمة في مقابل مكاسب دنيوية زائلة في إطار صفقات سرية أو علنية تدهس تحت أقدامها الثقيلة آمال وطموحات وتطلعات الشعوب، وهذا هو الدور الذي أجد تلك الجماعة تقوم به على أكمل وجه.

Thursday, August 25, 2005


الفساد الأخلاقي في الكازينوهات الفضائية

"يجب علينا عدم الترويج لتلك الفضائيات بأعيننا وأيدينا، فالباطل يموت بتجاهله"

كان هذا هو تعليق د.عمر عبد الكافي في برنامجه الإسبوعي الرائع "هذا ديننا" الذي تعرضه قناة الشارقة الفضائية في التاسعة والنصف من مساء الجمعة، وكان هذا تعليقاً على ذلك التكاثر السريع والغريب لتلك الفضائيات التي تروج للخلاعة والعري والإنحلال الأخلاقي عبر مائعات الفضائيات والراقصين والراقصات والمطربين والمطربات تحت مسميات زائفة وأقاويل مضللة مثل الحرية الثقافية والباذنجانية إلى آخره، وما في ذلك من تحقير وتهوين واستخفاف بالمرأة عبر تصويرها بأنها مجرد جسد يُعرض أمام اللاهثين وراء إشباع غرائزهم البهيمية، وهو ما يجعلنا نتساءل في حيرة هل هذه هي المرأة ؟ هل هذا ما يريدونه لها ؟ أين عقلها ؟أين ثقافتها؟ أين كرامتها؟ أين دورها وهي التي أكرمها الإسلام وجعلها كالدّرة المصونة.

ومن خلال قراءتنا لذلك التعليق وهذا الرأي الجامع الشامل للدكتور عمر عبد الكافي أعتقد أننا أمام وصفة ناجعة شافية من ذلك الداء الذي إستشرى في فضائنا وإنتشر مثل النار في الهشيم في شكل كازينوهات فضائية تهدف أولاً وأخيراً إلى مخاطبة الغرائز والإثارة عبر إيحاءات بذيئة مبتذلة، فالحل هو تجاهل تلك القنوات وأن نتوقف عن الترويج لها بأعيننا بالإعراض عنها والتوقف عن مشاهدتها وألا نروّج لها بأيدننا باستخدام جهاز التحكم عن بُعد "الريموت كونترول" أي يجب أن ننتقل إلى قنوات أخرى مفيدة وما أكثرها، وسيكون من الأفضل في كل الأحوال هو حذف تلك القنوات من قائمة القنوات نهائياً، فبهذه الطريقة ستموت لا محالة فالمشاهدين بالنسبة لتلك الكازينوهات الفضائية مثل الماء بالنسبة للنبات، وإذا توقف المشاهدون عن متابعتها ستنعدم أسباب الحياة فيها وستنتهي إلى غير رجعة وستصبح شيئاً من الماضي.

فعندما تقوم تلك الفضائيات الفاسدة في المتاجرة بالعري ومخاطبة الغرائز والعودة بنا إلى عصور النخاسة عبر المتاجرة في أجساد النساء وتقديم سلعة رخيصة مفسدة للمشاهد لا تخرج عن كونها سلعة غرائزية بالدرجة الأولى، فإنها بهذه الطريقة تحتقر المشاهد نعم تحتقره وتستخف به وبعقله وتفترض فيه السذاجة والتفاهة والغباء، وكأنه لا هم له في هذه الدنيا إلا مشاهدة العري كليب أو الفيديو كليب خلاعة، وطالما أن القائمين على أمر تلك الكازينوهات الفضائية ينظرون إلينا نحن المشاهدين هذه النظرة الدونية ويفترضون فينا سفاهة العقول وما أعظمه من استخفاف بذلك الإنسان الذي كرّمه الله، وخاصة عندما تسفه من عقله وتستهين به وهو أمر كما تعلمون عظيم، فالأجدر بنا نحن معشر المشاهدين أن نعاملهم بالمثل وأن نحقّر سلعتهم الفاسدة المفسدة وأن نتوقف عن الترويج لها، فمن يحتقرك عزيزي المشاهد رُدّ له الصاع خمسمائة ألف صاع ولا تُضيع وقتك الثمين لكي يستفيد منه ذلك الذي ينظر إليك باحتقار ويفترض فيك أن كل ما يهمك فقط في هذه الحياة هو النظر إلى المائلات المتمائلات.

وفي النهاية أود أن أقول إنه يؤلمني جداً إصرار تلك القنوات المُنحلة أخلاقياً على الإعلان عن مواعيد برامجها التافهة وأفلامها الخليعة بتوقيت مكة المكرمة أو السعودية.

نداء إلى أسارى الكليبات: إن راحـة البال وصفاء النفس وسمو الذات وسكينة الروح تأتي فقط من الإستماع إلى كلام الله وتدبر معانيه، لا إلي ذلك المغني الراقص أو تلك المغنية المائلة المتمائلة.






Sunday, August 14, 2005

(1) المعارضة المصرية وتجميل الوجه العكر

بين الترويض الاختياري وإبرام الصفقات


مما لا شك فيه أن المأساة التي تعيشها الحياة السياسية في مصر هذه الأيام ليست وليدة اليوم أو الأمس وإنما هي نتيجة تراكمات لأوضاع سيئة دامت لسنوات طويلة بعيدة إلى أن وصلنا إلى ذلك الوضع المتردّي الذي نعيشه الآن، ويرجع ذلك لأسباب عدة يصعب الإلمام بها في مقالة أو حتى في عشر إلا أن غالبية مَنْ يتحدث عن الأسباب تجدهم يتوجهون مباشرة بأصابع الإتهام إلى النظام الذي يحكم البلاد منذ ما يقرب من ربع قرن، ويحملونه هو "فقط" كامل المسؤولية عن تردّي الأوضاع إلى هذه الدرجة من السوء، ولا أختلف معهم في أن السبب الرئيس يعود إلى أسلوب تعامل ذلك النظام مع المسائل السياسية من منطق "ما أريكم إلا ما أرى"، ولكنه على أي حال ليس السبب الوحيد في تلك المأساة لأنني في نفس الوقت أرى أن هناك لاعب أساسي لا أعفيه أبداً من مسؤولية وصول الأوضاع إلى ما هي عليه الآن، ألا وهي المعارضة المصرية.

ولعله يكون من المفيد هنا التذكير بالحقيقة العلمية التي تقول إن "التعميم من أهم أسباب الوقوع في الخطأ"، فإنني هنا ومن باب التذكير أقول إنني أتحدث عن معظم أطياف المعارضة وليس الكل لأنه بالطبع هناك أُناساً كالملائكة ترفّعوا عن مصالحهم الشخصية ونظرتهم ومصالحهم الفئوية الضيقة في سبيل رفعة الوطن الذي هو هدفهم وطموحهم وأملهم وغايتهم وهؤلاء نُكنّ لهم كل احترام وتقدير، فعلى سبيل المثال لا الحصر فإن حزب العمل قد كافح بشرف من أجل القضايا الوطنية وهو ما نتج عنه تجميد الحزب ومنع جريدته "الشعب" من الصدور، وهو ما جعل الجريدة تخوض معركة قضائية شرسة حصلت فيها على أربعة عشر حكماً قضائياً للصدور ولكنها لم تنفذ، ولعل أبرز معارك جريدة الشعب وأشهرها هي قضية الفساد في وزارة الزراعية وقد تعرض مجدي أحمد حسين الأمين العام لحزب العمل للسجن في عامي 1999-2000 بسبب حملة الجريدة على د/ يوسف والى نائب رئيس الوزراء ووزير الزراعة بسبب السياسات الزراعية التي اتبعها وجلبت الأوبئة للشعب المصري، وأبرزها قضية المبيدات المسرطنة التي أدين فيها يوسف عبد الرحمن مستشار د/يوسف والي والذي حكم عليه بالسجن عشر سنوات وقد أوصت المحكمة في نفس القضية بالتحقيق مع د/يوسف والي ،وهو الأمر الذي يثبت لكل ذي عينين أن جريدة الشعب كانت على حق في تلك المعركة التي خاضتها بشرف ولم تبتغْ إلا رضا الله ومصلحة الوطن، ولكن من يرد الاعتبار لمن تعرض للسجن ظلماً في سبيل قضية عادلة لم يبتغْ منها كسباً ولا مغنماً ؟؟

لكن المعارضة المصرية في معظمها ساهمت بشكل أو بآخر في تجميل الوجه العكر عبر الظهور في شكل كيانات كرتونية أو "ديكور" ساهم بشكل أو بآخر في تجميل الصورة القبيحة أو العمل كـ برواز برّاق لامع يخفي وراءه حقيقة دميمة لذلك الوضع المزدري، وقد ظهر جلياً أن هذه "المعارضة" لا تمثل أدنى قيمة ولا تعدو أكثر من كونها "دمُى" في يد السلطة تحركها كيفما ووقتما تشاء، وتجدها في حقيقتها تمثل الوجه الآخر لتلك العملة الزائفة الكاسدة المعروضة والتي لم تلق رواجاً لدى الإنسان المصري البسيط بعد أن ضاق ذرعاً بالوعود الزائفة وفلسفة تزوير الواقع عبر تصريح براق زائف ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قِبله العذاب، وقد تنوعت وتعددت في ذلك أساليب المعارضة وأغراضها، فمنها من سعى إلى مصالح شخصية ضيقة ومآرب دنيوية زائلة ورضي بالحياة الدنيا على الآخرة، ومنهم من آثر بقاء "جماعته" على أي هدف آخر ولو حتى على حساب مصلحة الوطن، وتجدهم يرفعون الشعارات الحماسية التي يسوقون بها قطعان الغوغاء لكي يظهروا أنهم كُثر ولكي يقوي موقفهم وقت إبرام الصفقات مع الحكومة.

وقبل أقل من عام تقريباً كانت المعارضة المصرية وعلى مدى سنوات تنقسم إلى ثلاثة فئات أولها جماعة الإخوان المسلمين وثانيها أحزاب المعارضة الرئيسية وهي الآن (وبعد تجميد حزبي العمل والأحرار) تتألف من الوفد والناصري والتجمع وثالثها الأحزاب المجهولة التي لا يعلم بها أحداً إلا أقارب ومعارف رؤساء تلك الأحزاب وأصدقاء أبنائهم ومن باب التباهي إن والده أو والدها يمتلك حزباً بمنافعه، وسوف يتركز حديثنا هنا عن الفئتين الأولى والثانية (الإخوان – أحزاب المعارضة الرئيسية) وسنتجاهل الثالثة (الأحزاب المجهولة) لأنه قد رُفع القلم عن النائم حتى يستيقظ.

وطوال تلك السنوات تقريباً كنت تشعر وكأن هذين الصنفين من الأطياف المعارضة تعزف سيمفونية متناسقة متناغمة مع الحكومة وتعيش حالة من الوداعة والترويض الاختياري كل حسب الأسلوب الذي يناسبه في السر أو العلن، إلا أنه وإحقاقاً للحق فإن جريدة العربي الناصري لسان حال الحزب الناصري قد سبقت كل هؤلاء مبكراً إلى حد ما في رفع سقف توجيه النقد للنظام وتخطّت خطوطاً حمراء كانت في السابق تعتبر من المحرمات وكان الاقتراب منها كأنه رجز من عمل الشيطان، إلا أن معارضة السلطة في كل الأحوال لم تزد عن توجيه النقد على صفحات الجرائد ولم تحاول أي فئة ن هاتين الفئتين الخروج إلى الشارع مثلاً، ولم يحدث ذلك إلا بالاتفاق مع الحكومة وفي مكان مغلق مثل المظاهرة التي قام بها الإخوان في إستاد القاهرة بمباركة السلطة احتجاجا على الحرب على العراق.
وبمجرد ظهور حركة كفاية على الساحة السياسية بقوة منذ أقل من عام وخروجها للشارع في تحد صريح للنظام الحاكم وقانون الطواريء الذي يجرم المظاهرات حتى شعرت تلك الأطياف الثلاثة(الإخوان والأحزاب الثلاثة) بأن البساط المهترىء الذي بالكاد يقفون عليه بدأ ينسحب بقوة من تحت أقدامهم المرتعشة أو المشتاقة إلى رضا من يعارضونه "ظاهرياً" فبدأت وكأنها قد استيقظت من ثبات عميق وخرجوا يزيحون عن كاهلهم تراكمات من السلبية والدوران على مدى سنوات طويلة في فلك النظام الحاكم الذي من المفترض أنهم يعارضونه وشرعوا في رفع سقف نقدهم للنظام في محاولة منهم جميعاً الاستفادة من تلك الموجة الجارفة والأجواء الخارجية والداخلية المطالبة بالإصلاح، وما أن نجحت حركة كفاية في كسر حاجز منع المظاهرات وخرجت للتظاهر بالشارع في جرأة تحسب لها حتى سعت حركة الإخوان المسلمين - وكعادتهم دائماً في الاستفادة من جهد الآخرين - لاستغلال هذا المغنم فخرجت الجماعة إلى الشارع في مظاهرات استعراض القوة بعد طول بقاء خلف الأبواب المغلقة، فالفضل يرجع إلى الحركة المصرية من أجل التغيير "كفاية" في تمهيد الطريق أمام المرتعشين الخائفين المترددين المشتاقين.
وفي المرة القادمة بإذن الله تعالى نتحدث عن الدور "الكرتوني" الريادي البارز لجماعة الإخوان المسلمين في تجميل وتلميع تلك الصورة القاتمة.



Sunday, August 07, 2005

سلطـان الذكـرى
لا أعرف كم يحتاج الواحد منا من الأيام والسنين لكي يتمكن من نسيان وطيّ صفحة ماضية من حياته، وكم من الوقت لكي ينسى ما ألمّ به في الماضي من مواقف محزنة وأحداث لا يود أن يتذكرها، وهي بحق أمنية غالية طالما تمنى الواحد منا أن تتحقق، لأن مرور طيف الذكرى محملاً بأحداث وصور تلك المواقف يترتب عليه عذابات لا تُحتمل في حياة مَنْ عانى مرارة الأيام وقسوة السنين على أيدي من توهّم الوفاء فيهم، و مَنْ جاءته الطعنات مِن درعه الذي احتمى به واعتقد – لنقاء سريرته - أنه يقيه ضربات الزمن فإذا به يتحول إلى خنجر مسموم يتوجه في غدر إلى صدره المكشوف ليستقر في أعماق قلبه الذي كان بيتاً وملاذاً آمناً له وحده، وما تلبث حياته أن تتلون بألوان داكنة قاتمة، وخاصة عندما يسلب الله الإنسان نعمة النسيان فيكون ذلك إيذاناً باللوعة والمعاناة في تذكر ما لا يود أن يتذكره وفي سعي دائم إلى نسيان لا يستطيع إليه سبيلاً، وتصل المعاناة ذروتها مع بزوغ فجر "آب"* من كل عام فنجده يردد:"آب" حزين يأبى أن يفارقني مع ذكريات شتى عن معاناتي.
وتتضاعف معاناة ذلك الذي يتناسى ولا يستطيع عندما يتذكر أنه لم يقترف إثماً ولا جريرة، وربما كان قد سعى قدر استطاعته في سبيل تحقيق ذلك الهدف، إلا أن هناك أُناساً غرّهم بُهرج الدنيا الخدّاع في تعجّل غريب ليقضوا بأيديهم على تلك النبتة النضرة التي طالما رواها بأحلامه وأمانيه، ولكن لا أدري لماذا إذن يحزن ذلك النقيّ الذي لم يدّخر جهداً في سبيل تحقيق هدفه رغم الصعاب، فلا يجب أبداً أن يستسلم لذلك الحزن لأنه في الواقع لم يخسر شيئاً ذا قيمة ولكنه قد خسر الوهم وخسارة الوهم مكسب.
كلمات رائعة ومعبرة قرأتها منذ أكثر من عامين للأستاذ الشربيني عاشور وما أزال أذكرها، فقد تحدث عن فكرة خسارة الوهم فقال ".. وهي فكرة يمكن تعميمها على أي شيء يختبره الإنسان ثم يكتشف فجأة أو بعد تجربة أنه لم يكن عند مستوى ما فكرة فيه أو شعر به. ومن ثم فإنه عندما يتنازل عنه أو يرفضه أو يغير فكره ومشاعره نحوه فإنه لا يخسر في الحقيقة شيئاً مهماً. وإنما يخسر الوهم الذي عاشه تحت سطوة الفكر والشعور الخاطئ. فأنت عندما تحب امرأة وتتوله في حبها ثم تكتشف خيانتها أو أنها عبيطة وبشعة من داخلها ولا تقدر قيمة عواطفك نحوها ثم تأخذ قرارك بنفيها من عالمك أو تجفيف مشاعرك نحوها .. عندما تفعل ذلك .. أنت لا تخسر هذه المرأة التي أحببتها وإنما تخسر وهمك فيها .. وهمك بأنك أحببت من لا يستحق.وهكذا .. انظر إلى أفكارك التي اكتشفت خطأها ومشاعرك التي أيقنت أنها صرفت تجاه من لا يستحقها.. انظر إليها بفكرة خسارة الوهم.. ستستريح جداً.. وستبدأ وهماً جديداً.. لكن وفي كل مرة عندما تكتشف وهمك تراجع فوراً وقل في نفسك: إنني خسرت الوهم.. لم أخسر شيئاً ذا قيمة.. لأنك أنت القيمة في الحقيقة وقيمتك تأتي من مشاعرك ونظافتك ومحبتك التي بذلتها حتى لمن كانوا وهماً في حياتك."

نعم، لا يجب أن يحزن الإنسان أو يلوم نفسه على نقائه وطهارته ونبل هدفه حتى لو كان ذلك وبالاً عليه، ولكن على العكس لابد أن يشعر بالفخر والزهو لأنه كان مترفعاً عن كل ما يعكر نقاء الصورة التي حلم بها وسعى جاهداً لكي يرسمها على أرض الواقع بكفاحه وعرقه، وحاول نسج خيوط تلك الحياة التي يتطلع إليه بمثابرته وصبره على ظروف من صنيعة آخرين وجد نفسه فيها ولم تكن أبداً وليدة اختياره، بل إنه سعى بكل ما أوتي من قوة أن يغير تلك الظروف ويتغلب عليها مهما كلفه ذلك في سبيل تحقيق هدفه الأسمى الذي طالما تطلع إليه.

ولكن ذلك كلاماً نسطره بينما يصدع الواقع بحقيقة أخرى وهي أن الأمر ليس بأيدينا فهناك أشياءً خارجة عن إرادة الإنسان ، مثل رمشة العين وخفقان القلب وليس هناك من سبيل للتحكم فيها، فكم تمنى وحلُم هؤلاء الذين يعانون مرارة الذكرى بوسيلة سحرية ناجعة لكي يظفروا بتلك النعمة العظيمة.. نعمة النسيان لكي يتخلصوا إلى الأبد من سطوة تلك الذكريات المريرة، فهل هناك من سبيل إلى تلك الوصفة السحرية وهل هذا ممكناً حقاً ؟

تأتينا الإجابة على ذلك السؤال من تساؤل آخر يطرحه الشاعر أحمد رامي ذو الحس المرهف في قصيدته الرائعة "ذكريات" فيتساءل: "كيف أنساها وقلبي لم يزل يسكن جنبي ؟" فهنا يكمن السر وذلك هو موطن الداء، فطالما أن هناك قلباً يخفق وفؤاداً ينبض بالحياة لن تتحقق غاية النسيان ولن يحصل ذلك الشقي على مراده ولن يتمكن من نسيان تلك الذكريات، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً وتشاء إرادته عز وجل أن يريح هذا الكائن الشقي من تلك الحياة التي لم يتمنْ فيها شيئاً وناله، حتى عندما وجد الحلم يدنو منه توهم أنه قد قبض بيديه النظيفتين على الدنيا وتوهّم أن الله يكافئه عن كل ما لاقى من شقاء في هذه الدنيا الظالم أهلها واعتقد أن وقت الجزاء قد حان لكي يُكافأ على صبره ومثابرته ومعاناته طوال سنوات من الحرمان، ولكنه أفاق من غفوته التي طالما تمنى أن تطول ليدرك أن الأمر لم يكن أكثر من أضغاث أحلام وأن من كُتب عليه الشقاء يلازمه ولا يفارقه إلى أن يغادر هذه الدنيا ربما يجد راحته هناك في دار العدل.

وأختم بهذه الأبيات للشاعر العراقي حسن المرواني :

دَعْ عنك لَوْميْ وَأعزفْ عَنْ مَلامَاتي
إنْي هَويتْ سَريعاً مِنْ مُعاناتي
****
أنا الذي ضاع لي عامان من عمري
وباركت وهمي و صَدّقت افتراضاتي
****
عامان ما رفّ لي لحن على وتر
ولا استفاقت على نور سماواتي
****
عندي أحاديث حزن كيف أسطرها
تضيق ذرعاً بي أو في عباراتي
****
غداً سأذبح أحزاني وأدفنها
غداً سأطلق أنغامي الضحوكات

_____________________________
* "آب" (شهر أغسطس) وهو الشهر الثامن في التقويم الميلادي