Wednesday, November 09, 2005

سلطان الذكرى مجدداً

كم هو غريب أمر هذا الإنسان ! أجده ينتقل من الشيء إلى نقيضه، فقد رأيته في الماضي كيف تردد وفكر وخاف إلى أن أقدم على ما فكر فيه وناله ما ناله وقتها، وفي خضم ذاك التأثير الموجع وجدته وقد قطع عهداً على نفسه ألا يقترب من ذاك الحمى مرة أخرى أو قل مرة ثانية، وقد نجح في ذلك بعض الوقت وإعتقد وقتها أنه قد حِيز له ما كان يحلم به، ولكنني تابعته بإستغراب وهو يتفنن في تذكير نفسه بما لا يود أن يتذكره ويسلّم ناصيته لشراع الذكرى ليبحر به في خضم أمواجها العاتية، ثم يأتي بعد ذلك ويشكو من مرارة الذكرى وقسوتها وعدم رغبته في تذكّر تلك المواقف والأحداث لأن إسترجاعها يأتي محملاً بصنوف من المرارة والحزن واللوعة على ما قد كان، وقد سجّل من قبل تجربته تلك في هذا المكان وسمّاها "سلطان الذكرى" مع إنه يعلم جيداً كما أقول له دائماً إنه هو نفسه من قام بتنصيب ذلك السلطان الجائر على فكره وعقله وهو الذي جعلها تسيطر عليه فلا يمر يوم إلا ووجدته ينسج خيطاً دقيقاً يعيده إلى تذكر حدث أو موقف أو لقاء أو علامة فارقة في ذلك الطريق الذي كان يأمل أن يصل به إلى بلوغ هدفه ومراده ولكنه في النهاية وجده سراباً بقيعة.

وأنا على يقين وكذلك هو أنه عندما أقدم على تسليم نفسه لذلك السلطان الجائر كان مثل الذي أخرج المارد من قمقمه ولم يستطع التحكم فيه أو السيطرة عليه، فقد وجدناه كيف صوّر لنا شهر "آب" وكأنه مأساته الوحيدة وما أن يمر هذا الشهر حتى تمر ذكراه التي لم يكن يود أن يتذكرها ولكن ما أن أفاق من صدمة ذكرى "آب" حتى داهمته ذكرى أخرى محفورة هي أيضاً في جدران ذلك القلب الذي صبر وندم، وليته يدرك ويعي أن تلك السلسلة الطويلة من الذكريات لا تنتهي.

لكن الغريب في الأمر والذي لا أتفق معه فيه هو أنه تحت ذاك التأثير المحزن لتواتر تلك الذكريات أجده يقدم على تصرفات يغلب عليها الإنفعال فبمجرد أن تلوح أمامه في الأفق إشارات ربما تؤدي به إلى السير في نفس الطريق الذي لم تندمل جراحه إلى اليوم، أجده يتصرف بإندفاع وإنفعال وخوف من تكرار ما حدث، وفي الغالب يكون ذلك التصرف على حساب أناس آخرين جديدين لا ذنب لهم فيما حدث له وكل ما فعلوه هو محاولة الإقتراب من عالمه الغامض وربما المتناقض، ولكنني عرفت لماذا يفعل ذلك وقد صارحته بحقيقة الأمر وهو أنه يتصرف بهذه الطريقة التي يراها نقطة دفاع متقدم حتى يجنّب نفسه ما قد يواجهه إذا هو سلك نفس الطريق الذي ذاق فيه ما ذاق.

وكثيراً ما نصحته أن يتحرر من ذلك الوهم الذي يصوره لنفسه بأنه غير قادر على طرح تلك الذكريات جانباً، فأنا على يقين بأنه يقدر على ذلك، ولابد أن يعلم جيداً أن الأهم في الأمر ألا يؤثر ذلك بأي حال من الأحوال على من حوله خاصة من هم حديثي المعرفة به حتى لا يخسر هؤلاء أيضاً كما تعوّد أن يخسر، وقد وجدته دائماً يتهرب من سؤال طالما طرحته عليه وهو: لماذا يا عزيزي تتسبب بيديك النظيفتين في شقائك؟ لماذا تتفنن في تذكير نفسك بما لا تحب أن تتذكره ؟ فأنت تعلم مثلي أنه قد ولّى زمن الممكن فقد قُضي الأمر وأُسدل الستار وربما لا يستحق هذا الذي عانيت من أجله ولم تجده عوناً وسنداً لك في سبيل تحقيق ما حلمتما به معاً، فهو في رأيي لا يستحق كل هذه المعاناة التي تستسلم لها بإرادتك، فجأة وجدته قد قطع صمته الطويل وقاطعني بشدة مُلقياً في وجهي بحقائق علمها وتأكد من صدقيتها، حقائق وتفسيرات تبرىء ساحة صاحبه، ثم أخذ يردد قول الشاعر:

أساحرتي ظلمتك في تصاويري وتدويني
وخُنتك في خيالاتي وأنك لم تخونيني

وصفتك بالذي أكره وعشت لمن يوسوس لي
فإن جادت لك الأيام عن ثمني فبيعيني

وصفتك ما تلا قلبي على كبدي توسله
فصرت النهب للأحزان تأسرني وتسبيني

أعز الناس، أغلى الناس، أرحم منْ رأت عيني
ملاك مِتُّ أعشقه وصمت الموت يحييني

فقد ألقك في سِنتي وقد ألقاك في الدنيا
وقد ألقاك في الجنة وهذا العز يكفيني

No comments: